المعاملة الحسنة تعد أحد مفاتيح القلوب، وبها تكسب سحر المعاملة ، وتمتلك عرش القلوب.
بهذه العبارة بدأ الداعية الشيخ أبو صلاح بسرد قصته التي ترسم معاني الرفق واللين، وتجسد عبارات الصبر والتضحية، ولعلها رسالة لمن أراد أن يبني أصول المحبة والمودة بين الناس قائلاً : كنت يوما في زيارة لأحد المساجد لألقي خطبة, وبعد أن انتهيت ، رأيت أحدهم لم يبرح مكانه، وبدا لي أنه ينتظرني حتى أنهي مهمتي.
أشار إليَ بيده علامة أنه يريد أن يحدثني قليلاً , ولكنه يريدني في قضية خاصة، ويريدها أن تكون بيني وبينه, اقتربت منه وقلت له : اجلس .. ما هي قصتك ؟
وبدأت أهون عليه ظناً مني أن الموضوع يخصه وأنه بحاجة للمساعدة, ولكنه قال : يا شيخ .. القصة لا تخصني أنا؛ بل تخص جار.
قلت : حدثني بما عندك، وأدعو الله أن يمكّنني من مساعدتك .
فقال : " لي جار يملك محل ذهب، وهو تاجر كبير ومعروف، وهو في المعاملة طيب, ولم أرى منه إلا كل خير, كريم إذا ناشده أي إنسان، يلبي النداء, ولكنه - للأسف - لا يصلي رغم أنه جار للمسجد، يسمع الخمس نداءات، ويبقى مكانه لاهياً بتجارته .
اعتقدت في البداية أنه يصلي في متجره, ولكني تأكدت أنه تارك للصلاة, وحينها نصحته ونهيته عن ترك الصلاة، ولكنه كان عنيداً.
تأسفت عليه كثيراً , لا يعلم ما هو فاعل, ثم قلت : ربما يؤثر فيه أصدقائنا؛ فحاول بعضهم أن يرشدوه إلى الطريق الصحيح ، ولكنه زاد عناداً ولم تفلح جهودنا في جعله يصلي ".
أنهى حديثه بهذه الجملة، وقلت له خيراً إن شاء الله؛ ثم طلبت منه أن يدلني على مكان هذا التاجر, وحرصته أن لا يرانا معاً, قال : لك ذلك إن شاء الله.
خرجنا من المسجد، ومشينا قليلاً وأشار إلي بيده إلى مكان المحل ، وقال : هو ذاك، يقال له محل أبو أحمد، قلت خيراً إن شاء الله ، وودعني وهو يدعو لي أن يوفقني الله.
ذهبت إلى بيتي، وأخذت أفكر كيف سأقنع هذا الرجل بأن يصلي، وأن لا يترك صلاة إلا ويصليها في المسجد إن شاء الله, كيف ؟ فلابد أن أتعرف عليه.
أخذَت أفكاري تحدثني : كيف سيستمع لي، وهو لم يسمع من أصدقاءه ! لكني تركت الأفكار كلها وانشغلت في أعمالي بعد أن قررت أن أزور محله غداً.
أدفع بالتي هي أحسن :
استيقظت في صباح اليوم الثاني لكي أنجز مهمتي التي أوكلت إليَ , مستحضراً قوله تعالى : {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. (فصلت:34)
وبالفعل ذهبت إلى مكان التاجر واقتربت منه, وإذا بأحدهم يقف أمام باب المحل سألته : أين أبو أحمد ؟ ، فقال لي : أبو حمد ليس هنا، هو في بيته الآن ؛ فلديه عمال مشغولون ببناء بيته.
سارعت إلى سؤاله : هل بيته بعيد من هنا ؟
قال : لا في الشارع الآخر ، وليس بعيداً.
فقلت له : دلني عليه .
استغرب كثيراً على إصراري ، وسألني : ألك حاجة نستطيع خدمتك بها ؟
قلت له : لا، وإنما أحتاج أبو أحمد شخصياً.
فقال : حسناً من هذا الشارع, وأشار إلي َ بيده لشارع فرعي.
عرفت المكان، وذهبت مسرعاً إليه, رأيت أبو أحمد يعمل في بيته، ينقل الرمل لداخل البيت لكي يكمل بناءه, وإذا به يعمل وحده , اقتربت منه وسلمت عليه بحرارة، استقبلني بصدر رحب، وقدّم لي الضيافة، وترك عمله الذي في يده, وجلسنا نتحدث بأمور عامة، وهو حتى الآن لم يسألني لماذا أتيت ؟ وماذا أريد منه ؟ فهو يعرف إني داعية، كما دل مظهري على مخبري.
بعد أن أكرمني وضيفني نظر إليّ قائلاً : خير إن شاء الله ، ما هو طلبك ؟
قلت له : لن أقول طلبي إلا إذا انهينها عملك ، وسوف أساعدك.
بادرني بالرفض قائلاً : لا أقبل، أخبرني كيف أستطيع أن أخدمك ؟
حينها وقفت وقلت : هيا نكمل عملك ، وسوف أخبرك لاحقاً ماذا أريد.
وأمام إصراري لم يتمكن من إثنائي، وفعلا عملت معه , وأخذنا ننقل الرمل إلى داخل المنزل, وكنت أحدثه بالقصص الهادفة، وهو يستمع ويأخذ العبر من هذه القصص, إلى أن اقترب المغيب، ولم ينتهي العمل بعد ، حينها قلت له : سوف استأذن الآن، وإن شاء الرحمن أعود غداً, كنا متعبين من العمل، ودعته على أمل أن ألقاه غداً إن شاء الرحمن .
شعرت في طريق عودتي أن أبو أحمد سعد بصحبتي، وبالمعاملة الحسنة التي تعاملت بها معه, وفي اليوم الثاني ذهبت إليه، ووجدته قد بدأ العمل قبلي, سلمت عليه، وقلت له : هيا لكي ننهي عملنا اليوم, ارتسمت الابتسامة على محياه، وقال : هيا ، وما هي إلا ساعات حتى أنهينا العمل.
جلسنا لنستريح, وقلت له الآن أود أن أحدثك حديث طيب وإني أجد فيك الخير, حينها قال : سوف أبذل كل جهدي لكي أخدمك وأساعدك.
فقلت له : لم آتي إليك بغرض مساعدتي في شيء؛ إنما أتيت لأقول لك : وجب أن تصلي، لتكلل هذا الكرم الطيب بالصلاة, فأنت ذا أصل طيب، وإنسان فيك الخير، لماذا تترك الصلاة ؟
حينها وقف، من ثم فكر قليلاً وقال : معاملتك الطيبة في اليومين الذين قضيناهما معاً أسرت قلبي, وكيف لا أستمع لك وأنت أتيت لنصحي ، ولتدلني على الخير ؟ بإذن الله سوف أصلي.
ودعته، وأنا أدعو له ، ووصلتني الأخبار بأن أبو أحمد لم يترك صلاة قط ، وفي المسجد مع الجماعة, كما أنه بدأ يحرص على إيقاظ جيرانه لصلاة الفجر .
مما اعجبني