الحكمة من خلق إبليس، وخلق المصائب والآلام
المطلب الأول: خلق إبليس والحكمة من ذلك: [1]
الله عز وجل خلق إبليس الذي هو مادة الفساد التي تمد كل فساد في هذه الدنيا، في الأديان، والاعتقادات، والشهوات، والشبهات، وهو سبب لشقاوة العباد، وعَمَلِهم ما يغضب الله عز وجل وهو مع ذلك كله وسيلة إلى محابَّ كثيرةٍ، وحكم عظيمة.
إذا تقرر ذلك فهذه بعض الحكم التي تلمسها العلماء من خلق إبليس:
1- أن يَظهر للعباد قدرةُ الرب تعالى على خلق المتضادات والمتقابلات: فخلق هذه الذات - إبليس - التي هي أخبث الذوات، وهي سبب كل شر، وخَلَق في مقابلها ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأزكاها، والتي هي مادة كل خير، فتبارك من خلق هذا وهذا، كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والحر والبرد، والماء والنار، والداء والدواء، والموت والحياة، والحسن والقبيح، فالضد يظهر حسنه الضد، وهذا أدلُّ دليل على كمال قدرته، وعزته، وملكه، وسلطانه؛ فإنه خلق هذه المتضادات، وقابل بعضها ببعض، وسلط بعضها على بعض، وجعلها محل تصرفه، وتدبيره، وحكمته، فخلوُّ الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته، وكمال تصرفه، وتدبير مملكته .
2- أن يُكَمِّلَ الله لأوليائه مراتب العبودية: وذلك بمجاهدة إبليس وحزبه، وإغاظته بالطاعة لله، والاستعاذة بالله منه، واللجوء إلى الله أن يعيذهم منه ومن كيده، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية، والأخروية ما لا يحصل بدونه.
ثم إن المحبة، والإنابة، والتوكل، والصبر، والرضا، ونحوها أحب أنواع العبودية لله، وهذه إنما تتحقق بالجهاد، وبذل النفس، وتقديم محبته - عز وجل- على كل من سواه، فكان خلق إبليس سبباً لوجود هذه الأمور .
3- حصول الابتلاء: ذلك أن إبليس خُلق ليكون محكَّاً يمتحن به الخلق؛ ليتبين به الخبيث من الطيب؛ فإن الله - سبحانه - خلق النوع الإنساني من الأرض، وفيها الطيب والخبيث؛ فلا بد أن يظهر فيهم ما هو من مادتهم .
4- ظهور آثار أسمائه - تعالى - ومقتضياتها، ومتعلقاتها: فمن أسمائه: الرافع، الخافض، المعز، المذل، الحكم، العدل .
وهذه الأسماء تستدعي متعلقاتٍ يظهر فيها أحكامُها، فكان خلق إبليس سبباً لظهور آثار هذه الأسماء، فلو كان الخلق كلهم مطيعين، ومؤمنين لم تظهر آثار هذه الأسماء.
وقد ضرب الاستاذ ناصر الشريعة لفرعون مثالاً لحكمة الباري في خلقه فقال - حفظه الله -:
فمن ذلك أننا لو مثلنا للحكمة في ذلك بخلق الله لفرعون، فسيظهر لنا من بعض حكمة الله في خلقه أمور منها:
ظهور مقتضى اسم الله تعالى (الأعلى) حيث أظهر الله علوه على خلقه بمجازاة من أنكر وجوده وعلوه بالإغراق في اليمّ، معاقبة له على قوله {أنا ربكم الأعلى} فجعله الله الأسفل.
وما في خلقه من ابتلاء واختبار لبني إسرائيل وأهل مصر، فصار سببا في زيادة ثواب المؤمنين المحسنين، وتمييزا لهم عن المفتونين الخاسرين.
وما في خلقه من إظهار لعدل الله تعالى في عقوبته على ظلمه وبغيه في الأرض، وعلم أن بطش الكافر لا يحول بينه وبين عاجل نقمة الله عليه.
كما كان في خلقه لفرعون ظهور فضيلة موسى عليه السلام في مقارعته له بالحجة والآيات، وصموده بالحق أمام كفر الكافرين من علية القوم وأرباب الكفر.
وكان فيه إظهار عجز الكافر في أمره حتى أنه يسخره لحفظ المؤمن من حيث لا يشعر، فقد ربِي موسى عليه السلام في بيت فرعون أمام عينيه وسط داره وأهله، فإذا نهاية أمره وخاتمة ملكه على يديه.
وغير ذلك من الحكم الكثيرة التي تتعلق بخلق فرعون، فضلا عن خلق كل واحد واحد من أفراد أهل الكفر.
فسبحان الله عز وجل ما أحكمه وأعلمه وأقدره، وما أعجز الإنسان عن أن يحيط ببعض حكمة الله تعالى في بعض مخلوقاته فضلا عن جميع ذلك! "
5- استخراج ما في طبائع البشر من الخير والشر: فالطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد، فَخُلق الشيطان مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل، وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل؛ فاستخرج أحكم الحاكمين ما في هؤلاء من الخير الكامن فيها؛ ليترتب عليه آثاره، وما في أولئك من الشر؛ ليترتب عليه آثاره وتظهر حكمته في الفريقين، وينفذ حكمه فيهما، ويظهر ما كان معلوماً له، مطابقاً لعلمه السابق .
6- ظهور كثير من آيات الله وعجائب صنعه: فلقد حصل بسبب وقوع الكفر والشر من النفوس الكفَّارة الظالمة ظهور كثير من الآيات والعجائب، كآية الطوفان، وآية الريح، وآية إهلاك ثمود وقوم لوط، وآية انقلاب النار على إبراهيم برداً وسلاماً، والآيات التي أجراها الله على يد موسى، وغير ذلك من الآيات؛ فلولا تقدير كفر الكافرين وجحد الجاحدين لما ظهرت هذه الآيات الباهرة التي يتحدث بها الناس جيلاً بعد جيل إلى الأبد.
أما كونه - سبحانه وتعالى - أنظر إبليس إلى يوم القيامة فليس ذلك إكراماً له بل إهانة له ليزداد إثماً، فتعظم عقوبته، ويتضاعف عذابه، إضافة إلى ذلك فالله جعله محكَّاً ليميز به الخبيث من الطيب - كما سبق - وما دام أن الخلق مستمر إلى يوم القيامة فإن هذا يقتضي بقاءه ببقاء خلق البشر، والله أعلم.