لا يتسائل البعض عن سبب تحريم السرقة والقتل ، لأنهم يعتبرون تحريمهما عقلانياً , فعلى أي أساس قبلوا هذا التحريم؟ طبعاً على أساس المصلحة المادية الجسدية ، ومن هنا لم يعترضوا عليهما . مما يدل على اعترافهم الكامل بالمصالح المادية فقط .
على هذا : فهم يريدون أن يكون الدين كله من هذا النوع ، وبالتالي سيكون الدين مادياً كاملاً و دنيوياً كاملاً ، وإذا كان كذلك فلن يكون ديناً ، لأنه سيكون حقائق واقعية مثبتة وتشريعات بشرية ترعى المصالح ليس إلا .
العقلانية لها عدة أوجه وليس لها وجه واحد , فلها وجه مادي وعلمي، ولها وجه نفسي ، ولها وجه أخلاقي ، ولها وجه اجتماعي .. فلكل مجال منطقه .
الماديون والملاحدة يأخذون الوجه المادي فقط من العقلانية و يريدون فهم الدين كله و الأخلاق من خلال هذا الوجه و إلا فلا, إذاً الخطأ عندهم خطأ منهجي. والدليل على أن تعميم الوجه المادي خاطئ ، هو أنهم لا يستطيعون أن يعمموه على حياتهم هم، فهم لا يستطيعون أن يضربوا الحشرات غير السامة بالخلاط مثلاً ، ويتناولونها كوجبة غنية بالبروتين ، مع أنها حقيقة مادية !! ولا يستطيعون أن يحتقروا كل الأخلاق وأن يرفضوا أن يتعامل معهم أحد بالأخلاق ، مع أن المنطق المادي لا يقيم أي وزن للأخلاق , لأنها عطاء بلا مقابل أكيد ، فهي ليست كالبيع والشراء. إذاً تعميم المنطق المادي على كل الحياة خاطئ ؛ لأن الإنسان ليس مادياً فقط .
ومن الجزء غير المادي في الإنسان نشأ الدين والأخلاق والذوق و الجمال ، والتي تتعارض كثيراً مع المنطق المادي ؛ فالذوق يرفض تناول تلك الحشرات، والذوق ينطلق من إنسانية الإنسان وليس شيئاً مفروضاً على الإنسان من الخارج , مثلما انطلق المنطق المادي من عقلية الإنسان . والذوق يجعلنا نقتني الزهور ونضعها في منازلنا ، مع أنه ليس هنالك أي جدوى مادية من الزهور! فما الزهور إلا نوع من النبات الذي يصلح علفاً ، حسب العقلية المادية , وتصلح غذاء حيوانياً كأي جزء من النبات!
العقلانية المادية لا تجعلك تثق بصديق ولا بزوج إلا بموجب أدلة قطعية الثبوت وبشكل يومي, كالكاميرات أو التقارير السرية . إذاً هم يطبّقون على الدين ما لا يطبقونه على حياتهم , وهذا دليل على الرفض المسبق للدين وليس بسبب العقلانية المادية , أي أن النتيجة سابقة على السبب, وهذا تناقض مشين، وأستغرب كيف يقبلونه! فالإنسان الصادق يعتمد منطقا يطبقه على كل شيء وليس بشكل انتقائي .
في موضوع الزنا ، نجد أن كل أنواع العقلانية ضده , بما فيها المادية أيضا ..
فمن ناحية الذوق : فهو يقلل من قيمة الإنسان وقيمة الروابط البشرية وينزلها إلى مستوى الغريزة الحيوانية بدلاً من العقل والأخلاق , أي أنه اجتماع على الغريزة وليس اجتماعاً على العقل و الثقافة والقيم والأخلاق .
ومن الناحية المادية : فهو باب لاختلاط الأنساب ، و ربما يربّي الإنسان طفلاً ليس من صلبه ، وهو باب لانتشار الأمراض مهما كثرت الاحترازات المأخوذة بالاعتبار . ولا ننسى صعوبة اتخاذ الاحترازات في مثل مواقف التهييج ، حيث تسيطر الغريزة على العقل و يكون المرء كالسيارة بلا مكابح , وهذا يفسّر لنا كثرة وجود اللقطاء والعدوى والأمراض الجنسية رغم وجود وسائل الاحتياط إلى حد ما.
ومن الناحية الأخلاقية : فالزنا باب لإثارة الغيرة والشحناء ، وباب لليتم ومآسي الأيتام وباب للخيانة وانتشار عدم الثقة وعدم الوفاء بالعـِشْرَة ..
و الزنا باب للاغتصاب, لأن الاغتصاب يأتي من الممانعة. ولا نستغرب ظهور أصوات في الغرب تنادي بحرية الاغتصاب، بينما الله يقول: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةً وساء سبيلاً} ، فسبيل الزنا يؤدي إلى الشرور .
إذاً هي مجموعة من أبواب الشرور يفتحها الزنا مثلما تفعل الخمر ..
سد أبواب الشرور هو أهم حقوق الإنسان التي لم يلتفت إليها الفكر المادي الغربي ، بل هو الذي فتح أبواب الشرور على مصراعيه . كم عائلة تدمرت بسبب الإدمان على المخدرات والخمور والزنا ؟ و كم من شخص تدمرت حياته و أغرق بالديون بسبب جلسة قمار؟ و كم من إنسان فقد أملاكه بسبب الربا ؟
إذاً القرآن هو أكثر من رحم الإنسان من شر الإنسان ؛ بدليل أن القرآن حرّم هذه الأشياء ، والحضارة الغربية لم تحرمها ، إذاً فهي لم ترحم الإنسان, وحقوق الإنسان لم تهتم بالإنسان, وكأنها فتحت حلبات المشاجرة والصراع إلى الموت .
لماذا إذاً يوجد القانون بشكل عام على كل الناس ؟ و لماذا يمنعنا الحراس من دخول بعض الأماكن المحظور دخولها ، مع أن ليس كل الداخلين ينوون شراً ؟ وجود الحرّاس هو لسد باب الشرور التي قد تحدث . إذاً العقلانية يجب أن تـُطبـّق على كل شيء , وما سمّي المنطق منطقاً إلا لسريان مفعوله في كل وضع .
ومن ينادي بحرية الزنا ، عليه أن ينادي بحرية كل شيء حتى يكون عقلانياً , فلو سألنا : ما ضد العقلانية ؟ سيقال : العاطفية , إذاً : كيف تدخل العاطفية إلى العقلانية ؟ ليس هناك من مدخل إلا الانتقائية , إذاً الانتقائية هي ضد العقلانية ، و كل انتقائي هو غير عقلاني و بشكل مطلق و دائم . ومن مارس الانتقائية فقد كسر العقلانية , ومن أوّل انتقائية تـُمَارَس ، فسلـِّم لي على العقلانية ! سواءً في هذا الموضوع أو غيره.
وعلى كل من يتكلم عن العقلانية أن يحذر , لأنه سيُطالب بالتعميم . وما قيمة العقل إلا في التعميم ، وإلا لكان رأياًَ شخصياً. والأخلاق يجب أن تؤخذ كلها وإلا لوقعنا في الانتقائية ، والانتقائية غير عقلانية . كل هذا دون أن نلتفت إلى موضوع الإيمان الذي حرّم الزنا, و هذا بحد ذاته كاف لقبوله حتى لو لم نفهمه ما دمنا آمنـّا بالأساس.
ثم هل من الأفضل فتح أبواب الشرور أم إغلاقها ؟ وتوظيف الغريزة بطريقة سليمة وصحية ؟ الزنا لا يبرره التراضي بين الطرفين ؛ لأن الموضوع لا يتعلق بالطرفين فقط ، بل هنالك أطراف أخرى , وكل البشر ينفرون من دور الدعارة ولا يحترمون روادها و رائداتها كثيراً , رغم التراضي الواضح و عملية البيع والشراء التي تجري فيها . إذاً الزنا بالتراضي هو مثل الزنا مقابل المال ، هذا في ناحية التراضي .
وهذا فضلاً عن الأثر النفسي الذي يحس الإنسان فيه أنه ليس مقبولاً لذاته ولعقله ولأخلاقه, بحيث تـُكال كلمات الحب دون أن تـُصدَّق , والتي تذوي وتذبل مع انطفاء الشهوة . وإلا فلماذا حـُرّم القمار مع أن هناك من يكسب فيه و يوجد طرف مستفيد؟ السبب هو أنه باب للصراع وللشرور و يجر على العداوة والبغضاء... إلخ . إذاً الله رحيم بالعباد .
لو فـُتِحَت حلبة للمشاجرات لمن أراد أن يتضارب مع غيره ، وليستمتعوا بالحرية الكاملة إلى حد القتل !! فهل سيوافق المجتمع ؟ بالرغم من أن هناك أطراف منتصرة! فلماذا حوصرت الحرية هنا ؟ إذاً الحرية ليست شيئاً جميلاً على الدوام . والعقل يقتضي سد أبواب الشرور , لهذا حـُرّمت النميمة لأنها باب للشر.
وفكرة أن "حرية الشخص تقف عند حدود حرية الآخرين" لا يطبقها الماديون والليبراليون أنفسهم , فكيف تجتمع هذه الفكرة مع فكرة الحرية ؟ وكيف تجتمع مع فكرة الصراع والرأسمالية في آن واحد؟ الرأسمالية تعيش على حرية الآخرين , والمال قوة لحرية الإنسان ، فإذا أخذتَ ماله قللت حريته , وهنا تزداد حرية الرأسمالي وتتقلص حرية الفقير . إذاً هي خدعة ليس إلا.
ويبقى السؤال : لماذا يتكرر هذا السؤال من قبل الملاحدة : لماذا حـُرّم الزنا ؟ ماذا يعني الدوران عند هذه النقطة بالذات؟ إنه يعني نقطة البداية للإلحاد , فبداية الإلحاد هي من الزنا في أكثر الأحوال , لأنه أقوى الشهوات ، ومنها بدأ الخروج عن الدين، وكانت فتنة بني اسرائيل في النساء .
والزنا من ناحية أخرى نفسية : يفتح الباب على الإدمان الجنسي ، وهو مرض بحد ذاته و له عيادات تعالج المصابين به ، وهو يفعل مثلما تفعل المخدرات ، لأنه يتكوّن و ينشأ بشكل متنامٍ ومتعدد ، فلا يقبل طعاماً واحداً , و لك أن تتصور ما يحتاجه ذلك من مال و جهد ووقت ، وما قد يسببه من انتقال الأمراض بسبب تنوع الأطراف التي لن تكون عفيفة أيضاً و مليئة بالبصمات المتنوعة . لا شك أن الذوق يمتعض من هذا الوضع ، كما أنه لا يمكن تصنيفه من عالم الفضيلة بأية حال من الأحوال .
ويستطيع أي شخص بهذه العقلانية البحتة أن يناقش لماذا حـُرّم زواج الأقارب , وهكذا على طول الخط .
والعجيب أننا نجد سؤال المادي الملحد يبدأ بعبارة : "أنا لا أستطيع أن أفهم لماذا حُرم كذا" ، و "لماذا رغـّب الدين بكذا" .. وهذا يحمل إشارة واضحة ، وهي أن العقلية المادية البحتة تـُضيّق من سعة عقل صاحبها ، لأنها ببساطة تحصره فقط في المادة ، فبالتالي لا يستطيع أن يفهم المشاعر البشرية إلا من خلال العقلية المادية ، ولأنه لا يستطيع الفهم ، فسيقول حينها : أنا لا أفهم . ولن يقنعه أي جواب إلا إذا كان جواباً مادياً .
إنسانية الإنسان ليست مادية , و لهذا يظل المادي في عدم فهمه إلا للمادة . ومن اختار شيئاً يحصر عقله فيه ، فحينها لا يستطيع أن يفهم غيره . إن المأخذ على الماديين هو : لماذا لم يجعلوا حياتهم كلها بموجب هذا المنهج ؟ أي أن يطبق ما يقوله على نفسه أولاً ثم يطبقه على الدين . إنهم لا يسألون المؤمنين : كيف تثقون ببعضكم دون أدلة قطعية مادية مستمرة ؟ ليتهم يسألون حتى نقول أنهم يطبـّقون منهجاً مادياً على كل شيء .
كثير من الملاحدة يحرّم زنا الأقارب ، مع أنه ليس محرّماً في شرعه ، ورغم وجود الفحوصات والاحتياطات . من يريد أن يقبل الزنا ، عليه أن يقبل به كله ، حتى زنا المحارم ، ليكون منهجياً , ليس هذا فحسب ، بل عليه أن يقبل بكل ما ينفر منه الذوق ما لم يقم دليل علمي على ضرره . ولا يليق بمقام العقلاني أن يتقزز من أي شيء إلا ما أثبت المختبر خطأه وضرره ؛ فتناول الصراصير بعد غسلها وتنظيفها وفحصها صحياً أمر يجب أن يفعله ليثبت عقلانيته ومنهجه .
هذا الموضوع يصلح موضوعاً لرواية كوميدية عن المادي الصادق المنهجي العلمي , الذي لا يعترف بالمشاعر إلا ما ثبت علمياً ومصلحياً بطريقة مادية , وطبعاً هذا لن يوجد !
إذاً تبقى المسألة مسألة عدم رغبة و ضعف أمام الغريزة ليس إلا ، ولا شأن للعقلانية بموضوع الإلحاد بتاتاً . أي أن من ألحد يلحد بدوافع عاطفية ليس إلا , مثل التذمر بأن الله ظالم ، أو أنني دعوته ولم يجبني ، أو لماذا يحرم علي شهوتي .. كلها عواطف وغرائز؛ وعليه فيكون هذا السؤال المطروح عاطفياً من أساسه.
وهذا السؤال لا ينبغي أن يـُطرح لوحده ، بل ينبغي أن تـُطرح معه مجموعة من الأسئلة ؛ لأن العقلية المادية لا تعتبر هذا الشيء (الزنا) هو الأمر الوحيد غير المفهوم ، فيجب أن تطرح مجموعة الأسئلة غير المفهومة - أو حزمة أسئلة العقل المادي - حول الدين والأخلاق والقيم البشرية التي يطرحها الفكر المادي جملة واحدة , ومن ضمنها المحبة , التي لا يستطيع أن يفهمها العقل المادي ؛ فلماذا ننجذب لأحد ونبذل طاقتنا ومالنا وجهدنا له دون جدوى مادية ثابتة وأكيدة ؟
إذاً على المادي ألا يسأل غير الماديين ؛ وذلك لأنه سيـُواجه بأسئلة أخرى . أما إذا كان يسأل منطلقاً من إنسانيته وليس من ماديته ، فهنا سيـُنظر إليه على أنه محترم للحقيقة .
مشكلة العقل المادي أنه نظر للإنسان كمادة فقط ، وهذا هو سر القطيعة بينه وبين كل ما هو إنساني وليس الدين فقط ؛ لأن هجوم الماديين امتد وتـَخطـّى إلى ثوابت أخرى غير الدين ، كالفضيلة والأخلاق ، و أخيراً الإنسانية على يد سام هاريس و غيره . هذا مع مهاجمة الفلسفة والمنطق والمنهج العلمي أيضاً . و سيبقى العقل المادي يهاجم كل ما يقف في طريق رغباته وما يريده ، حتى لو كانت الحقيقة نفسها , لأنه ابتدأ أصلاً بحرب الحقيقة من خلال حربه للدين ، وما يـُفتـَتـَح به يـُختـَتـَم به.
إذاً النظرة إلى الدين من خلال منطق مادي بحت باتت قديمة . عليهم أن ينتقدوا الدين من خلال مجموع الإنسان وليس من خلال جزءه المادي . ومجموع الإنسان موجود في عقل الإنسان . وإذا طـُبـّقـَت العقلانية المادية وحدها على الدين ، فلن يبقى شيء في الدين .
ما الفائدة من الحج؟! .. إن المنطق المادي مرتبط بالفائدة المادية ، فهو يقبل تحريم السرقة لأنه وجد مصلحة مادية , ولكن كيف سيقبل بالحج و فيه خسارة مادية ؟
إن الدين للدنيا وللآخرة ، و هم يريدون الدين كله للدنيا ، وإذا أثبت عدم جدواه في الدنيا فهو فاسد .
ما الفائدة من الصلاة ؟! .. لا تستطيع المصلحة المادية أن تـُلزمنا بالصلاة ، لأن هناك من عاشوا ولم يصلـّوا أبدا , فهم يريدون أن يعمموا نظرتهم الخاصة على غيرهم.