بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
عبد الملك بن محمد بن صالح الجاسر
القاضي في ديوان المظالم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛
فإن التوفيق والفلاح دائر في فلك التقوى، وشكر النعم مدار التسديد والهدى، ومتى سأم الإنسان نعم الله عليه استقلها ثم جحدها وكفرها، فيكِله الله إليها فيهلكه بها، أو يُبدله بضدها فيعذبه بها.
فقد ذكر اللهَ جل وعز في كتابه ما أنعمَ به على أهلِ سبأٍ من الرزق الوفيرِ والظلِ الظليل، وأنه قيل لهم:
{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}، لكنهم أعرضوا فأذهبَ اللهُ نِعَمهم بالسيل، وجعلهم أحاديثَ ومزقَهُم كل ممزقٍ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. فشكرَ النعمِ سببٌ لاستقرارها وزيادتها وسعتها، وكفرها سببٌ للشقوة بها، وسرعةِ زوالها وتبدلها بضدها.
فأنعام اللهِ إنْ لمْ تُشكر كانت بين أمرين لا ثالثَ لهما: فإمّا أنْ تُسلبَ في الحال، وإمّا أن تبقى للاستدراج، ليغترَّ الظالمون بها، ويزدادوا ظلماً وجوراً؛ وكِلا الأمرين نتيجتَهُ واحدة في المآل، ليصدقُ قوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ}.
قال ابن كثير رحمه الله: "أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا! ... لقد أخطئوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجاً وإنظاراً وإملاءً".
فمقامَ النعمةِ بين يَديّ الإنسان: كمقامِ وديعةٍ استودعها عابرُ سبيلٍ بين يَديّ رجلِ على البراءة الأصلية، فهو تاركٌ لها ما حافظ عليها، وهو قابضها ما فرطَ فيها.
إنّ تقلبَ النعمِ بين يَديّ المجتمعاتِ المترفة: كتقلبِ كرةٍ جليديةٍ من شاهقٍ، بَدأت صغيرةً وما زالت تَكبُرُ حتى يكون الاصطدامُ ثم الزوالُ والاضمحلال!
إنّ الذي يتبخترُ بنعمةِ قد وُضِعَتْ بين يديه لينسِبَها إلى نفسهِ بطريقةٍ ضمنيةٍ، وإنْ لم يقل ذلك بلسانه: فليَنْتَظِرْ تحولُ تلك النعمة من يدهِ إلى يد غيره. فاستبدال الشكر بالكفر -وإنْ لمْ يكن ذلكَ بصريحِ اللسانِ بلْ بالأقوالِ والأفعالِ-: نذيرُ خطرِ لاستدراجْ قومٍ من حالٍ إلى حال، ومن شأنٍ إلى شأن، والتاريخُ شاهدُ عيانٍ لأممٍ كانت يوماً تَنظرُ لغيرها بنظرةِ العطفِ والرحمة، لتنقلبَ تلكَ النظراتِ من الرآئي إلى المرئي {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}،
بمثلِ هذهِ الكلماتِ القارونية كانت علّةُ الخسفِ، فأينَ قارونُ بما جمع؟! وأين الكنوزُ بما حَملت؟!
لقد مضى وصارَ عبرةً لكلِ ذي لبٍ، ليكونَ ذلك الاسمُ عنواناً ورمزاً لطغيان الإنسان واستكباره.
فويلٌ لمن يتبخترُ بما رُزق، ويتباهى بما وُهب، هي للمجهولِ نائبُ فاعلٍ وليستْ بفاعل، فَعلام التبخترُ في غيرِ مقامِ الحربِ يا أبا دجانة (إنها لمشيةٌ يُبغِضُها اللهُ إلا في مثلِ هذا الموطن) -أي: في الحرب-.
(بينما رجل يمشي في حٌلّة تعجبه نفسه، مرجِّلٌ جمتَه، إذ خسف الله به، فهو يتجلجلُ إلى يوم القيامة) متفق عليه، واللفظ للبخاري.
واعجباً لكفر الإنسان وطغيانه، يا تُرى أنسيَ الإنسانُ أجيالاً مضت قبل جيله! وأقواماً عايشهم وأدركهم، أخرجَهُم الفقرُ والجوعُ من بلدانهم وأوطانهم، ليطلبوا لقمةَ العيشِ عند غيرهم!
أنسي الإنسانُ البؤسَ والعَوزَ والحرمانَ والألمَ والجوع!
إنه استكبار المترفين! {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى}.
إن التفاوتَ الذي يُقدّرُهُ اللهٌ على عبادهِ في سعةِ الرزق وتضييقه نموذجٌ مصغّرٌ لسنةِ الاستبدالِ والتداول، فترى رأيَ العينِ أقواماً يعيشون عند الخطوطِ البدائية من الحياةِ الإنسانية، يفتقدون في قواميسهم كثيراً من المعاني والمترادفات، فيَعْرِفُونَ الشيءَ بلا عكسِ ولا مقابلةِ أو مرادفة، ففقرٌ بلا غنى، وبؤسٌ بلا سعادة،
وأقواماً يعيشونَ في أبراجِ عاجية، عكس هؤلاء المساكين البائسين، لهم قواميسُهم الخاصة، فما تمر الأيام والليالي حتى تتغير الأحوال بسنةِ التداولِ والاستبدال، فيرتفعُ أقوامٌ، ويَسفُلُ آخرون، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
لقد ضربَ اللهُ لنا من الأمثالِ ما فيه مزدجر، وقصّ علينا من الأخبارِ ما فيه مدّكر، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
قال الصابوني رحمه الله في تفسيره: يهددهم "بعذاب في الدنيا بأن جعلهم مضرب مثل لقرية عذبت عذاب الدنيا، أو جعلهم مثلاً وعظة لمن يأتي بمثل ما أتوا به من إنكار نعمة الله".
{ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ }،
هي صمامُ الأمانِ، لبقاءِ النعمِ وزيادَتِها، ليُقال: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}.
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}،
هي النجاة من زوالِ النعم، في زمنٍ كثُرَ فيه التنكر والجحود، وهيَ الدافعُ لسنةِ التداولِ والاستبدال.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}،
قال البيضاوي رحمه الله في تفسيره: أي "أولم نجعل مكانهم حرماً ذا أمن بحرمة البيت الذي فيه يتناحر العرب حوله وهم آمنون فيه ... يُحمل إليه ويجمع فيه ... ثمرات كل شيء من كل أوب! رزقاً من لدناً".
"ما بعدَ الكمالِ إلا النقصان"، هكذا نطق المُلهم الفاروق عمر،
فالحذر من غمامةَ سوءِ ممزوجةً بمقتِ وسخطِ واستبدال، {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}.
إنّ نعمَ اللهِ ما حُفِظ موجُودُها بمثلِ عبادته، ولا استُجّلِبَ مفقُودُها بمثلِ طاعتِه، فإنّ ما عندَ اللهِ لا يُنالُ إلا بطاعته واستجلاب رضاه، والبُعد عن مواطن مقته وغضبه.
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}،
هي نذارة وبشارة، وما بينهما عذاب أو مغفرة، وفعل العباد مؤشر الوقوع أو العفو، وعائشة رضي الله عنها تقول: "أنهلك وفينا الصالحون؟!" فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم، إذا كثر الخبث).
اللهم اغفر للعباد حيث زللوا، وحيث ظلموا، وحيث أسرفوا.
اللهم لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك، وهب لنا غنى لا يطغينا، وصحة لا تلهينا، وأغننا اللهم عمّن أغنيته عنّا.
اللهم احفظ علينا الأمن والإيمان، والسلامة في الأوطان، واجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.