أما الذين تتحقق الإجابة من الله لهم ، فهم : المضطر ، والمظلوم وإن كان فاجراً أو كافراً ، والوالدان لأبنائهم ، والإمام العادل ، والرجل الصالح ، والولد البار بوالديه ، والمسافر ، والصائم حتى يفطر ، والمسلم لأخيه بظهر الغيب ؛ ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم ، أو يقول : دعوت فلم يستجب لي ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إِنَّ لِلَّهِ عُتَقَاءَ فِي كُل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنَ النَّارِ وَإِنَّ لِكُل مُسْلِمٍ فِي كُل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً}[1]
و قال {أَرْبَعُ دَعَواتٍ لاَ تُرَدُّ : دَعْوَةُ الْحَاج حَتَّى يَرْجِعَ ، وَدَعْوَةَ الْغَازِي حَتَّى يَصْدُر َ، وَدَعْوَةُ الْمَرِيضِ حَتَّى يَبْرَأَ ، وَدَعْوَةُ الأَخِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْب ِ، وَأَسْرَعُ هٰؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ إِجَابَةً ؛ دَعْوَةُ الأَخِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ}[2]
إن الأصل الأول في إجابة الدعاء هو التزام الداعي بالأدب الباطن الواجب عليه ملاحظته مع الله ، ويكون ذلك بالتوبة ، وردِّ المظالم ، والإقبال على الله بكنه الهمَّة ، فقد روى الإمام الغزالي في الإحياء أنه قال :
أصاب الناس قحط شديد على عهد موسى رسول الله عليه السلام ، فخرج موسى ببني إسرائيل يستسقى بهم ، فلم يُسْقَوْ ، حتى خرج ثلاث مرات ولم يُسْقَوْ ، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام : أني لا أستجيب لك ولا لمن معك وفيكم نمَّام ، فقال موسى : يا ربِّ ومن هو حتى نخرجه من بيننا ؟ ، فأوحى الله إليه : يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نمَّاماً ، فقال موسى لبني إسرائيل : توبوا إلى ربِّكم أجمعكم عن النميمة ؛ فتابوا ، فأرسل الله تعالى عليهم الغيث
وقال سفيان الثوري : بلغني أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين حتى أكلوا الميتة مـن المزابل ، وأكلوا الأطفال ، وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يبكون ويتضرعون ، فأوحى الله إلى أنبيائهم عليهم السلام : لو مشيتم إليّ بأقدامكم حتى تحفى ركبكـم ، وتبلغ أيديكـم عنان السماء ، وتكلَّ ألسنتكم عن الدعاء ، فأني لا أجيب لكم داعياً ، ولا أرحم لكم باكياً ، حتى تردوا المظالم إلى أهلها ، ففعلوا فمُطِرُوا من يومهم
وقال مالك بن دينار : أصاب الناس في بني إسرائيل قحط ، فخرجوا مراراً فأوحى الله إلى نبيهم : أن أخبرهم أنكم تخرجون إليّ بأبدان نجسة ، وترفعون إليّ أكفَّـاً قد سفكتم بها الدماء ، وملأتم بطونكم من الحرام ، الآن قد اشتدَّ غضبي عليكم ، ولن تزدادوا مني إلا بُعْداً
وقال أبو الصديق الناجي : خرج سليمان عليه السلام يستسقى ، فمرَّ بنملة ملقاة على ظهـرها ، رافعة قوائمها إلى السماء ، وهي تقول : اللهم إنَّا خلق من خلقك ، ولا غنى بنا عن رزقك ، فلا تهلكنا بذنوب غيرنا ، فقال سليمان عليه السلام : ارجعوا ، فقد سيقتم بدعوة غيركم
وقال الأوزاعي : خرج الناس يستسقون ، فقام فيهم بلال بن سعد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا معشر من حضر ، ألستم مقرين بالإساءة ؟ فقالوا : اللهم نعم ، فقال : اللهم إنا قد سمعناك تقول {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ} التوبة91
وقد أقررنا بالإساءة ، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا ، اللهم فاغفر لنا ، وارحمنـا ، واسقنا ، فرفع يديه ، ورفعوا أيديهم ، فسقوا
ورُوِىَ أن عيسى صلوات الله عليه وسلامه ، خرج يستسقي فلمَّا ضجروا ، قال لهم عيسى عليه السلام : من أصاب منكم ذنباً فليرجع ، فرجعوا كلهم ولم يبق معه في المفازة إلا واحد ، فقال له عيسى عليه السلام : أما لك من ذنب؟ فقال : والله ما عملت من شئ ، غير أني كنت ذات يوم أصلِّي ، فمرَّت بي امرأة فنظرت إليها بعيني هذه ، فلمَّا جاوزتني ، أدخلت إصبعي في عيني فانتزعتها ، واتبعت المرأة بها ، فقال له عيسى عليه السلام : فادع الله حتى أؤمِّن على دعائك ، قال : فدعا فتجللت السماء سحابا ً، ثم صبَّت فسقوا
وقال يحي الغسَّاني : أصاب الناس قحط على عهد داود عليه السلام ، فاختاروا ثلاثة من علمائهم ، فخرجوا حتى يستسقوا بهم ، فقال أحدهم : اللهمَّ إنك أنزلت في توراتك أن نعفو عمن ظلمنا ، اللهم إنا قد ظلمنا أنفسنا فاعف عنا ، وقال الثاني : اللهم إنك أنزلت في توراتك أن نعتق أرقاءنا ، اللهم إنا أرقاؤك فاعتقنا ، وقال الثالث : اللهم إنك أنزلت في توراتك أن لا نردَّ المساكين إذا وقفوا بأبوابنا ، اللهم إنا مساكينك ، وقفنا ببابك فلا تردَّ دعاءنا ؛ فسقوا
وقال عطاء السلمي : منعنا الغيث ؛ فخرجنا نستسقى ، فإذا نحن بسعدون المجنون في المقابر، فنظر إليّ ، فقال : يا عطاء ، أهذا يوم النشـور ، أو بعثـر ما في القبور؟ فقلت : لا، ولكنا منعنا الغيث فخرجنا نستسقى ، فقال : يا عطاء ، بقلوب أرضية ، أم بقلوب سماوية ، فقلت: بل بقلوب سماوية ، فقال: هيهات يا عطاء ، قل للمتبهرجين لا تتبهرجوا ، فإن الناقد بصير ، ثم رمق السماء بطرفه وقال : إلهي وسيدي ومولاي ، لا تهلك بلادك بذنوب عبادك ، ولكن بالسرِّ المكنون من أسمائك ؛ وما وارت الحجب من آلائك ؛ إلا ما سقيتنا ماءاً غدقاً فراتا ً، تحيي به العباد ، وتروي به البلاد ، يا من هو على كل شئ قدير ، قال عطاء : فما استتمَّ الكلام حتى أرعدت السماء وأبرقت ، وجاءت بمطر كأفواه القرب ، فولَّى يقول :
أفلح الزاهدونا و العابدونا إذ لـمولاهم أجاعوا البطونا
أسهروا الأعين العليلة حبَّا فانقضى ليلهم وهم ساهرونا
شغلتهم عبادة الله حتى حسب الناس أن فيهم جنونا
وقال ابن المبارك : قدمت المدينة في عام شديد القحط ، فخرج الناس يستسقون ، فخرجت معهم : إذ أقبل غلام أسود عليه قطعتا خيش قد ائتزر بإحداهما وألقى الأخرى على عاتقه ، فجلس إلى جنبي ؛ فسمعته يقول : إلهي أخْلَقَت الوجوهَ عندك كثرةُ الذنوب ومساوي الأعمال وقد حبست عنَّا غيث السماء لتؤدب عبادك بذلك ، فأسألك يا حليماً ذا أناة ، يا من لايعرف عباده منه إلا الجميل ، أن تسقيهم الساعة الساعة ، فلم يزل يقول الساعة الساعة حتى اكتست السماء بالغمام وأقبل المطر من كل جانب
ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس رضي الله عنه ، فلما فرغ عمر من دعاءه ، قال العباس : اللهمَّ إنه لم ينزل بلاء من السماء إلا بذنب ، ولم يكشف إلا بتوبة ، وقد توجَّه بالقوم إليك لمكاني من نبيك صلى الله عليه وسلم ، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ، ونواصينا بالتوبة ، وأنت الراعي لا تهمل الضالة ، ولا تدع الكسير بدار مضيعة ، فقد ضرع الصغير ، ورقَّ الكبير ، وارتفعت الأصوات بالشكوى ، وأنت تعلم السر وأخفى ، اللهم فأغثهم بغياثك ، قبل أن يقنطوا فيهلكوا ، فأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، فما تَّم كلامه حتى ارتفعت السماء مثل الجبال