رمضان الأخلاق
شهر رمضان، شهر أنزل الله عز وجل فيه القرآن الكريم، واختصه وميزه عن غيره من الشهور بأنه شهر كامل تنصرف فيه عبادات عظيمة إلى الله عز وجل، فهو مخصوص بفريضة الصيام، وهو شهر تربى فيه الأمة على الأخلاق الفاضلة، وعلى التعلق بالله عز وجل تعلقاً عظيماً.
لا شك أن المسلم مطالب بأن يكون حسن الخلق في كل وقت وحين، وهذا أمر معلوم ولا شك، لكننا في رمضان مدعوون إلى مزيد من تهذيب النفس إلى جوار الأعمال الفاضلة الأخرى.. فإذا كان الشخص مقصراً في قيام الليل، فإن رمضان يعلمه القيام حين يكون الأمر مع عامة المسلمين، والشياطين مصفدة لينطلق بعد رمضان وقد اعتاد تلك العبادة الفاضلة، وهكذا هو الأمر مع الصيام الذي قد يثقل على النفوس الصبر على مشقته، لكن حين يكون الأمر فريضة فإن النفوس تلبي أمر الله في الصيام، وعلى مدى شهر كامل، وهي كفيلة بتعويدهم عليه ليصوموا بعده، وهكذا الأمر أيضاً بالنسبة للأخلاق الفاضلة.. فمن كان عنده قصور من جانب فيها فدونه رمضان، شهر صفدت فيه الشياطين، وأقبلت فيه النفوس على البارئ جل في علاه، فكن واحداً من أصحاب الأخلاق الفاضلة ولو بأَطْر نفسك عليها في رمضان من باب حفظ الصيام، حتى تعتاد عليها، ثم أكمل المسيرة بعد رمضان.
الأخلاق الفاضلة:
حسن الخلق مع الله أولاً..
أول الأدب وأحق ما ينبغي أن يكون عليه الأمر عند كل إنسان أن يحسن التأدب مع ربه جل في علاه، والتأدب مع الله في الصيام يكون بترك الشهوات والطعام من أجل الله عز وجل، وابتغاء وجهه.. وهذه هي حقيقة الصيام، والتي يترتب عليها الأجر العظيم الذي لا يعلمه أحد سوى الله جل في علاه، والفرحة الأولى في الدنيا، ثم الفرحة الثانية عند لقاء الله جل في علاه، وتأمل معي هذا الحديث الصحيح: ((ترك طعامَهُ وشرابَهُ وشهوتَهُ منْ أجْلِي، الصيَامُ لي وأنا أجزِي بهِ)).. فيجازيك الله عز وجل - وهو الكريم سبحانه - جزاءً عظيماً، حين يكون تركك من أجله سبحانه، وهنا لفتة مهمة في جانب الإخلاص في الصيام، فإن البطن ليس مكشوفاً للناس، ومتيسر للإنسان - إذا غاب عنه الرقيب من نفسه وتذكره لاطلاع الله عليه - أن يتخفى عن الناس فيأكل ما شاء، لكن إذا كان الصيام لله عز وجل، منع الإنسان نفسه مما حرم الله عليه، وهذا هو عين التأدب مع الله: إخلاص العمل لله تعالى.. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه جل في علاه: ((أنا أغنَى الشركاءِ عن الشركِ. مَن عمِل عملًا أشرك فيه معِي غيرِي، تركتُه وشركه))..
ولعل من حسن الأدب مع الله عز وجل أن لا يتذمر الإنسان من الجوع والعطش في أدائه لهذه العبادة العظيمة، وليؤدها طيبة بها نفسه، فرحاً بما يصيبه من تعب ونصب في سبيل إرضاء ربه سبحانه، وليتذكر: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وما الصيام إلا نوع من أنواع الصبر، ولذلك كان أيضاً حساب الصائمين بغير حساب (( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ))!.
وحسن الخلق مع الله ثانياً..!
تأمل آيات الصيام تجد فيها الحكمة السامية في الصيام: التقوى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]، والتقوى ينضوي تحتها كل معاني العبادة بمعنى فعل الأوامر وترك النواهي.. فحقق التقوى في نفسك، وإن لم تكن محققاً لها قبل رمضان، فليكن رمضانك هذا نقطة الانطلاقة من خلال صون سمعك وبصرك وفؤادك عن الحرام.. وإقبالك على ربك: بصيام طيب، وصلاة حسنة في وقتها من غير تأخير، وهكذا.
وحين تتمعن في آيات الصيام تجد في ثناياها آية عظيمة: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].. ألا يلفت انتباهك وجود هذه الآية مع آيات الصيام؟!..
إن من التأدب مع الله جل في علاه: دعاءَه، ورفع الحاجات إليه وسؤاله، وهذا من تعلق القلب به سبحانه، ومن تمام الإيمان به وأن الأمر كله بيده سبحانه، ومن التأدب مع الله: أن يستجيب له المؤمن ويؤمن به حتى يستجيب الله دعاءه، وإن لم يتحقق له ما أراد، فعليه أن يعلم أحوال الدعاء الثلاثة المشتهرة، وأن لا ينقطع رجاؤه بربه فييأس من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
ومن ذلك أيضاً:
شكر الله عز وجل على نعمه، فإن في رمضان نعما كثيرة، منها تصفيد الشياطين، واجتماع الناس على الذكر والعبادة، ومنها بلوغ الإنسان لهذا الشهر، وقد حرم ذلك الخير غيره من الناس ممن توفاهم الله عز وجل قبل بلوغه، ومن النعم: توفيقه للصيام والذكر وقراءة القرآن، وقد حُرم غيره هذه النعمة بمرض أو حرمان وعدم توفيق لسبب من الأسباب، ومن النعم كذلك: شبعه بعد جوع، وريه بعد ظمأ، وتوفيقه لاتباع السنة في السحور والفطور وقيام الليل وغير ذلك..
ولا يستطيع الإنسان عد نعم الله: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾.. لكننا نذكر ببعضها، فلا بد من الشكر على هذا، وهذا الشكر يكون مستمراً في كل لحظة من لحظات رمضان، ويكون بعد رمضان وبعد تمام العدة: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
من حسن الخلق: بذل الخير للغير:
وهذا ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان أجود الناس، ولكنه يزداد جوداً وكرماً في شهر رمضان كما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجْوَدَ الناسِ، وكان أجْوَدُ ما يكونُ في رَمَضانَ، حين يَلْقاهُ جِبريلُ، وكان جِبريلُ عليهِ السلامُ يَلْقاهُ في كُلِّ ليلةٍ مِن رمضانَ فيُدارِسُه القُرآنَ، فلَرسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم أجْوَدُ بالخيْرِ مِن الرِّيحِ المُرسَلَةِ)).
ومن صور بذل الخير للغير:
إطعام الطعام في رمضان وتفطير الصائمين، وقد ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يتركون العلم ويقبلون على القرآن ويقولون عن رمضان: إنما هو قراءة قرآن وإطعام طعام.. وهذا من أولى ما ينبغي في رمضان لمن تأمله: فإن الإنسان في رمضان يجوع ويعطش، فأولى ما ينبغي عليه أن يتذكره: الفقراء الذين بالكاد يجدون لقمة العيش، ومن ذلك المسلمون في أقطار الأرض الذين أصابتهم المجاعات والحروب، فهم من أولى الناس ببذل الخير لهم، ومن أولى من ينبغي أن يتذكرهم الإنسان حين ينهكه الجوع والعطش حال صيامه.
وتفطير الصائمين فيه فضل عظيم كما جاء في الحديث: ((من فطر صائماً كان له مثل أجرهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ))، صححه الألباني.
حسن الخلق: في عدم الإساءة للآخرين، وفي مقابلة إساءتهم بكظم الغيظ:
على أن الإسلام يشرع للإنسان أن يأخذ حقه ممن ظلمه، ويجعل ذلك الأمر حقاً له لا يثرب عليه فيه، إلا أنه يحث على العفو والصفح والمسامحة، وعلى كظم الغيظ، وقد تكررت الآيات في ذلك كما في قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 39، 43]..
وهكذا جاء الأمر كذلك في الصيام.. بأن لا يقابل الإنسان جهل الجاهلين بمثله، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم)).. وسواء كان هذا القول تلفظاً صريحاً، أو كان تذكيراً داخليا لنفسه بأنه صائم، فكلاهما فيه: تذكير النفس بحفظ الصيام من اللغو الذي قد يفسده، وفيه نوع من أنواع الصبر الكثيرة التي تجتمع في الصيام.
فإن الصيام فيه صبر على الجوع والعطش، وفيه صبر عن جماع الأهل امتثالاً لأمر الله، ويضاف إليها كذلك الصبر على ما يجده الإنسان من أذى وجهل غيره.
وفي المقابل فإن الابتداء بهذا الأمر أمر مذموم ومحذر منه، وينقص من أجر الصيام حتى يفسده كما في الحديث: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))، وهنا تنبيه على أن الصيام فيه امتناع عن مباحات أحلها الله عز وجل، لكنها تصبح في وقت الصيام محرمة، فكيف بمحرمات في الأساس: لعل تحريمها ومنعها خلال الصيام من باب أولى.. إذن هو صيام شامل لا يقتصر على الطعام والشراب فحسب.
فيا من ينطلق لسانه بالغيبة والنميمة.. يا صاحب النكات الفاحشة، والطرائف المكذوبة.. يا صاحب التحريش بين المسلمين.. يا من اعتاد أذية إخوانه.. توقف وامتنع في رمضان.. واجعل منه انطلاقة إلى التوقف عن كل هذا فيما بعد رمضان: من أجل حفظ صيامك في رمضان، ومن أجل حفظ بقية أعمالك الصالحة: أن تحبط وأنت لا تشعر.. ومن أجل أن لا تتكاثر ذنوبك فتهلكك.. اترك لأجل ربك، والله يعين من جاهد فيه.
ويا من تعرض الناس له بالظلم والجهل والأذية، اعف واصفح واصبر لأجل الله.. فإن ذلك من عزم الأمور.