من محاسبة السلف لأنفسهم:
فمن فضائل السلف: كثرة محاسبتهم لأنفسهم، ويقظتهم التامة حيال ما يقع من خلل وهفوات، واستدراك ذلك كله بالندم والاستغفار والتوبة، ومن الأخبار الواردة عنهم في محاسبة النفس ولومها:
مقت النفس
قال أبو بكر رضي الله عنه: "من مقت نفسه في ذات الله، آمنه الله مقته"
حاسبوا أنفسكم
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]
أكرهوا أنفسكم
قال ابن الملوك: "إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تؤاتيهم على الخير عفواً، وإن أنفسنا لا تكاد تؤاتينا إلا على كرهٍ، فينبغي لنا أن نكرهها"
صفة المؤمن
عن الحسن في قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]
قال: "لاتلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه،
ماذا أردت بكلمتـي؟
ماذا أردت بـأكلتـي؟
ماذا أردت بشربتي؟
والعاجز يمضي قدماً لا يحاسب نفسه"
لا تسء إلى نفسك
عن سفيان بن عيينة قال: "كان الرجل من السلف يلقى الأخ من إخوانه فيقول: يا هذا! إن استطعت أن تسيء إلى من تحب فافعل.
فقال له رجل: وهل يسيء الإنسان إلى من يحب؟
قال: نعم، نفسك أعز الأنفس عليك، فإن عصيت الله فقد أسأت إليها"
حوار مع النفس
قال إبراهيم التيمي: "مثّلت نفسي في الجنة أكل ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟
قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً
فقلت: فأنت في الأمنية فاعملي"
ألست صاحبة كذا؟
قال مالك بن دينار: "رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟
ثم زمَّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله، فكان لها قائداً"
صفة المتقي
قال ميمون بن مهران: "لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، حتى يعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمِن حلال ذلك أم حرام"
عفوك اللهم
قال خويل بن محمد: "كأن خويلاً قد وُقف للحساب فقيل له: يا خويل بن محمد! قد عمّرناك ستين سنة فما صنعت فيها؟
فجمعت نوم ستين سنة مع قائلة النهار، وإذا قطعة من عمري نوم، وجمعت ساعات أكلي فإذا قطعة من عمري قد ذهبت في الأكل، ثم جمعت ساعات وضوئي، فإذا قطعة من عمري قد ذهبت فيها، ثم نظرت في صلاتي، فإذا صلاة منقوصة وصومٌ منخرق، فما هو إلا عفو الله أو الهلكة"
اترك ما لايعنيك
مرَّ حسان بن أبي سنان بغرفة، فقال: "متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عما لا يعنيك؟ لأعاقبنك بصوم سنة فصامها"
عمر يحاسب نفسه
قال أنس بن مالك: "دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حائطاً فسمعته يقول- وبيني وبينه جدار-: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ! والله لتتقينَّ الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنّك"
شهيد المحاسبة
كان توبة بن الصمة محاسباً لنفسه، فحسب فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها، فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: "يا ويلتي! ألقى المليك بأحدٍ وعشرين ألف ذنب كيف؟ وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ثم خرَّ مغشيًّا عليه فإذا هو ميت"
أفضل الأعمال
قال عمر بن عبدالعزيز: "أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس"
زاد العقلاء
عن وهب بن منبه قال: "مكتوب في حكمه آل داود حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات:
-ساعة يناجي فيها ربه.
-وساعة يحاسب فيها نفسه
-وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه عن نفسه.
-وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحلّ ويحمد، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات، وإجماماً للقلوب"
أخي!
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها * * * * لنفسي في نفسي عن الناس شاغل
أيها المؤمنون: سلفنا الصالح ضربوا أروع الأمثلة في محاسبة النفس، مما لو حاولنا أن نستقصيه لطال بنا المقام، ولعجزنا عن ذلك، لأن أولئك القوم ارتبطت قلوبهم بالله؛ فكانوا أجساداً في الأرض وقلوباً في السماء، وما إن يحصل من أحدهم تقصير أو زلّة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على ذلك؛ حتى لا تكاد تأمره نفسه إلا بخير.
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعتُ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول ـ وبيني وبينه جدار ـ: (عمر!! أمير المؤمنين!! بخٍ بخٍ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك) [19].
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرّة، وقال له: (اضربني كما ضربتُك) فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك. فقال عمر: (إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل: تركته لله. فانصرف عمر إلى منزله فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: (يا بن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على دفع الظلم فظلمتَه؟!! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق الناس عليه)[20].
وقال إبراهيم التيمي: "مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أيّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً! قلتُ: فأنتِ في الأمنية فاعملي"[21].
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه: (يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ كذا؟)[22].
ونُقِل عن توبة بن الصّمة: (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم؛ فصرخ وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟!!)[23].
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه غفور رحيم.