القاهرة - بشير عيَّاد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
في اللحظة الفاصلة بين عامي 1898 و1899م كان ميلاد الشاعر إبراهيم ناجي، اسمه إبراهيم أحمد ناجي إبراهيم القصبجي، كان أبوه عاملا بشركة البرق «التلغراف»، وكانت شركة إنجليزية إذ كانت مصر تحت الاحتلال الإنجليزي، ولأنه كان شغوفًا بالمطالعة فقد امتلأت مكتبة بيته بأمهات الكتب في العلوم والفنون والآداب، فنشأ الابن -إبراهيم- على حبّ المطالعة وشجعه أبوه على ذلك، فأتقن الطفل -من خلال هواية القراءة- العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية.
نال ناجي الشهادة الابتدائية في العام 1911م بتفوّق ملحوظ، ثم التحق بالمدرسة التوفيقية الثانوية بحي شبرا، حيث مال كليا إلى قراءة كتب الأدب، القصص والروايات والشعر، وبدا مشدودًا إلى شعر أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وقبل أن يتم عامه الـخامس عشر بدأ ينظم الشعر الوجداني الذي ينبئ عن قدوم واحد من أهم شعراء الرومانسية.
بعد الثانوية التحق ناجي بمدرسة -كلية- الطب، ومرَّت السنة الأولى بها بصعوبة بالغة، غير أنه استطاع التفوق في دراسته اعتبارًا من السنة الثانية إلى أن نال شهادة «الدكترة» 1923م وهو ابن الرابعة والعشرين ، وتم تعيينه طبيبًا بالبقع الموبوءة من الريف، من سوهاج إلى المنيا بصعيد مصر ثم إلى المنصورة شمالا.
انضم ناجي إلى " جماعة أبولـُّو " التي أنشأها الشاعر أحمد زكي أبو شادي في سبتمبر عام 1932م، ومع هذا الميلاد صدرت للجماعة مجلة أدبية تحمل الاسم نفسه، وكانت أوّل مجلة خـُصصت للشعر ونقده في الوطن العربي وأحدثت صدى جيّدًا في مصر والأقطار العربية عامة، ومن خلالها أتيح لناجي أن ينشر أعماله الغزيرة بلا حدّ، وكانت أشعاره منذ بداياته تتسم بالذاتية، أي تعبير الشاعر عن مكنوناته بصورة أكثر عمقاً، وفي زمن قياسي أصبح يُشار إليه بلقب «الشاعر العاطفي المبدع» لغزارة قصائده الوجدانية المنسكبة من روح محترقة معذبة.
فوق ذلك أتاحت له المجلة فرصة نشر كل كتاباته الأخرى، من الترجمة إلى التعليقات إلى المتابعات، وأظهرت كلّ جوانبه التي تعبّر عن موهبته الأدبية من ناحية، ومن ناحية أخرى تعدُّد منابعه الثقافية، فقد نشرت «أبولـُّو» أشهر ما ترجم ناجي من الفرنسية وهو قصيدة «البحيرة» للشاعر الفرنسي لامرتين، وأشهر ما ترجم من الإنجليزية وهو قصيدة «أغنية الريح الغربية» للشاعر الإنجليزي شيلي.
بعد صدور ديوانه الأول « وراء الغمام » عام 1934، سافر مع أخيه إلى تولوز في فرنسا ليساعده على الانتساب إلى إحدى الكليات هناك، ومنها سافر إلى لندن لحضور مؤتمر طبي، وبينما كان يجتاز أحد الشوارع، صدمته سيارة، فنقل إلى مستشفى سان جورج، ولبث فيه مدة، وساءت في هذه الفترة حالته النفسية، ليس بسبب إصابته التي عانى منها شهورا لكن بسبب الهجوم العنيف الذي شنه العقاد وطه حسين على ديوانه الوليد « وراء الغمام »، وما كان من ناجي إلا أن يرد على ما وُجِّه إليه من نقد، واشتعلت حرب الرد والرد المضاد وانقسم النقاد والمبدعون (مع وضد)، وانصرف آخرون إلى تحليل قصائد الديوان تحليلاً منصفاً بعيدًا عن الانفعال أو الانتماء إلى معسكر هذا أو ذاك.
ومع بدايات العام 1935 كان ناجي قد قرر الانصراف عن الشعر والأدب، وأصدر كتابه النثري «مدينة الأحلام»، معلناً في مقدمته أنه يودّع الشاعر والفنان والأديب، وبعد صراع مع الإلهام انتصر الشعر على ناجي وأرغمه على كتابته، وبدأت قصائده تنهمر مرة أخرى، وأثبت الشعر بداخله أنه الأقوى.
جاء «وراء الغمام»، كاشفا جُلّ خصائص شعر ناجي والأغراض التي يكتب فيها وهي الطبيعة والغزل والرثاء والمديح والوطنيات، غير أن الخط الذاتي -الوجداني- هو واجهة ناجي، أو «هو ناجي»، فقد أفنى عمره يبكي تجربته الكبرى الخائبة، والمثير للدهشة أن %90 من وجدانيات ناجي على امتداد تجربته الشعرية يجيء في «بحر الرّمل»، تاما أو مجزوءًا، ومعظم هذه التسعين يجيء في مقاطع متساوية، في معظمها كلّ مقطع من أربعة أبيات يحكمها رويٌّ مختلف، وإذا كانت قصيدة «الأطلال» التي جاءت في ديوانه الثاني « ليالي القاهرة» تمثل ذروة ناجي وعصارته الشعرية، فإن بذورها في تربة «وراء الغمام " بدءًا من رائعته «العودة» التي تمثل بالفعل بكاءً على أطلال حقيقية، فها هو يقدّم لها قائلا: «عاد الشاعر إلى دار أحباب له فوجدها قد تغيّرت حالها».
كان الديوان يضمّ عدة قصائد في التكريم وفي رثاء أحمد شوقي، وهي -في معظمها- أشعار مناسبات لا تصمد طويلا إذ يغلب عليها طابع النظم الآلي أو الصناعي المفتقد لحيوية الشعر وسخونته، غير أن الجانب الوجداني / العاطفي في الديوان هو الذي صمد وتجدد مع الأيّام، وأبقى ناجي معنا وبيننا، فلا أحد منا سينسى يوما غناء أمّ كلثوم لأمّ قصائده ( الأطلال ) فيما بعد، وبعد رحيله بـ 13 عاما.
أما « ليالي القاهرة » فهو الديوان الثاني للشاعر إبراهيم ناجي، تلك «الليالي» التي يقصد بها ليالي الحرب العالمية الثانية.. يبدأ الديوان بملحمة (وهي وصف غير دقيق من الشاعر) في 6 قصائد ومقطوعة «من وحي الليالي العصيبة التي خيّم ظلامها الدامس على القاهرة في سنوات الحرب الأخيرة» (الحرب العالمية الثانية)، ثم يقفز مباشرة إلى قمّة شِعره وهي قصيدة «الأطلال» التي تقع في 134 بيتا، والتي وصفها أيضًا بـ «الملحمة».
وقد شاء القدر أن تتخيّر السيدة أمّ كلثوم خمسة وعشرين بيتا منها، أضيفت إليها سبعة أخرى من قصيدة «الوداع» (من «وراء الغمام»، الديوان الأوّل)، وغنتها في 7 أبريل 1966م، أي بعد رحيل ناجي بـ 13عامًا، فأطلقته في أسماع الزمن، رغم أن أنها لم تكن أوّل من غنى شيئًا من أشعاره، ولكنها أمّ كلثوم!!، وقد رددتها في 23 حفلا على مدار ثلاثة أعوام بمصر وخارجها، وأصبحت القصيدة رأس الهرم الكُلثومي، ومن ثمّ رأسَ الغناء العربي، فقد عدتها صحيفة «لوموند» الفرنسية ضمن قائمة أعظم أغنية في (القرن العشرين)، وعنها -أو بها- نال السنباطي المركز السابع على العالم في ذلك القرن!!
وفي الديوان أيضا إحدى قمم تجربته الإبداعية وهي قصيدة «الخريف» التي تقع في 110 أبيات، والمفارقة الغريبة هنا أن الموسيقار محمد عبدالوهاب قد اختار ثلاثة مقاطع من «الخريف» وغناها بعنوان «القيثارة» في عام 1954 م، أي بعد رحيل ناجي بعام واحد.
أمّا «الطائر الجريح» فهو الديوان الثالث للشاعر، ونُشر بعد وفاته، وحوى معظم القصائد التي لم ينشرها ناجي في ديوان «ليالي القاهرة»، ويحفل الديوان بالكثير من القصائد القصيرة وبعض المطولات التي تتقدمها اثنتان هما «في ظلال الصمت» التي يتجلّى فيها حضور «الخريف» وكأنها -قصيدة «الخريف»- أو أحد ظلالها، ثم «ظلام»، والقصيدتان من «أخوات الأطلال « اللائي أشرنا إليهن من ناحية الشكل والمضمون والموسيقى الشعرية.
أثناء توقيعه الكشف على إحدى مريضاته، عصر الـرابع والعشرين من مارس 1953 م، سقط ناجي فوق المريضة، وفارق الحياة في ثوان معدودة تاركا خلفه عمرًا من الشعر، ازداد تألقا واتساعا بأصوات أم كلثوم وعبدالوهاب والسنباطي ونجاة علي وسعاد محمد وكارم محمود.