الحمد لله والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد بن عبدالله، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله وأصحابه الطيِّبين الطاهرين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، وبعد:
قال أبو الفضل زين الدين عبدالرحيم بن الحسين العراقي، المتوفى 806هـ، في مقدمة كتابه الأربعين العشارية ما نصه: (كان اتصال هذه الشريعة المطهرة بالأسانيد مما خصَّ الله به هذه الأمة بفضله، ولقد كانت مجالس الحديث غامرةً بأهله، حتى وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله، فانقطعت مجالس الإملاء لتقاعد الهمم عنها، ورغبة الطالبين عن عقد ذلك وحله...).
هذه ورقة عنونْتُها بـ: (المَفْخَرة بمَن كان يحضر مجلسه ألف محبرة)، جمعتها من بعض كتب التراجِم، أسأل الله أن ينفع بها، وأن يعيد للأمة مجد علمائها الأطهار، آمين.
منهم: أبو مروان: عبدالملك بن زيادة الله بن علي بن حسين بن محمد بن أسد التميمي الطبْني، من أهل (قُرطبة)، ولد في السادس من ذي الحجة من سنة ستٍ وتسعين وثلاثمائة، من بيت علم، ونباهة، وأدب، وخير وصلاح.
كانت له عنايةٌ تامة في تقييد العلم والحديث، وبرع مع ذلك في علم الأدب والشعر، كانت له رحلتان إلى المشرق كتب فيهما عن جماعة من أهل العلم، ثم لَمَّا رجع إلى قرطبة أملى فاجتمع إليه في مجلس الإملاء خَلْقٌ كثير، فلما رأى كثرتهم أنشد:
إِنِّي إِذَا احْتَوَشَتْنِي أَلْفُ مِحْبَرَةٍ *** يَكْتُبْنَ حَدَّثَنِي طَوْرًا وَأَخْبَرَنِي
نَادَت بِعَقْوَتِيَ الأَقْلاَمُ مُعْلِنَةً *** هَذِي الْمَفَاخِرُ لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنِ
مات سنة سبعٍ وخمسين وأربعمائة مقتولًا في داره، رحمه الله [1].
ومنهم: أبو مسلم: إبراهيم بن عبدالله بن مسلم بن ماعز الكجي، البصري، الحافظ المسند، روى الخطيب بسنده إلى أحمد بن جعفر بن سلم، يقول: لَمَّا قدم علينا أبو مسلم الكجي أملى الحديث في رحبة (غسان)، وكان في مجلسه سبعة مستملين يبلغ كل واحدٍ منهم صاحبه الذي يليه، وكتب الناس عنه قيامًا بأيديهم المحابر، ثم مسحت الرحبة، وحسب من حضر بمحبرة فبلغ ذلك نيَّفًا وأربعين ألف محبرة سوى النظارة، قال ابن سلم: وبلغني أن أبا مسلم كان نذر أن يتصدَّق- إذا حدَّث- بعشرة آلاف درهم، قال الذهبي: (هذه حكاية ثابتة رواها الخطيب في تاريخه).
مات أبو مسلم إبراهيم بن عبدالله الكجي يوم الأحد لسبع خلون من المحرَّم، سنة اثنتين وتسعين ومائتين [2].
ومنهم: الحسن بن عيسى بن ماسرجس، أبو علي النيسابوري، كان من رؤساء النصارى، فأسلم على يد ابن المبارك؛ لأنه دعا له بالإسلام، ورحل في طلب العلم ولقي المشايخ، وكان دَيِّنًا وَرِعًا ثِقة، من العلماء، عُدَّ في مجلسه بباب الطاق اثنا عشر ألف محبرة، من عَقِبِه بنيسابور فقهاء ومحدِّثون، مات سنة أربعين ومائتين [3].
ومنهم: إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير البغدادي، الحربي، الشيخ، الإمام، الحافظ، العلاَّمة، شيخ الإسلام، أبو إسحاق، ولد سنة ثمان وتسعين ومائة، كان يُقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه، كان يجتمع في مجلسه ثلاثون ألف محبرة، كان يقول: لا أعلم عصابة خيرًا من أصحاب الحديث، إنما يغدو أحدهم ومعه محبرة، فيقول: كيف فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- وكيف صلَّى، إياكم أن تجلسوا إلى أهل البدع، فإن الرجل إذا أقبل ببدعة ليس يفلح.
مات ببغداد، فدفن في داره يوم الاثنين، لسبع بقين من ذي الحجة، سنة خمس وثمانين ومائتين، في أيام المعتضد، له في اللغة كتاب: غريب الحديث [4].
ومنهم: جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض، الفريابي، أبو بكر، الإمام الحافظ الثبت، القاضي، ولد سنة سبع ومائتين، كان في مجلسه من أصحاب المحابر من يكتب حدود عشرة آلاف إنسان، قال أبو أحمد بن عدي: كنا نشهد مجلس جعفر الفريابي، وفيه عشرة آلاف أو أكثر، وكان الواحد يحتاج أن يبيت في المجلس؛ ليجد مع الغد موضعًا، مات ليلة الأربعاء في محرَّم، وهو ابن أربع وتسعين سنة، كان قد حفر لنفسه قبرًا في مقابر أبي أيوب، قبل موته بخمس سنين، ولم يقض أن يدفن فيه [5].
ومنهم: محمد بن الحسين بن داود بن علي، العلوي الحسني النيسابوري، أبو الحسن، الإمام المحدِّث، مسند خراسان، وكان يعد في مجلسه ألف محبرة، فحدَّث وأملى ثلاث سنين، مات فجأةً في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعمائة [6].
----------------------------
[1] الصلة، (1 / 115).
[2] تاريخ بغداد (6 / 121)، وتذكرة الحفاظ (2 / 146).
[3] تاريخ بغداد (7 / 351)، وتهذيب التهذيب (2 / 272).
[4] سير أعلام النبلاء (13 / 356)، وشذرات الذهب (2 /190).
[5] سير أعلام النبلاء (14 / 62)، والديباج المذهب (1/ 322).
[6] سير أعلام النبلاء (17 / 98)، وشذرات الذهب (3 / 162).الكاتب: بلال مصطفى علوان.