حدائق الموت ؟
تلك القبور التي غيبت فيها أجساد تحت التراب .. تنتظر البعث والنشور وأن ينفخ في الصور ..
اجتمع أهلها تحت الثرى .. ولا يعلم بحالهم إلا الذي يعلم السر وأخفى ..
نعم ..
إنه الموت ..
أعظم تحدٍّ تحدى الله به الناس أجمعين ..
الملوك والأمراء .. والحُجّاب والوزراء .. والشرفاء والوضعاء .. والأغنياء والفقراء
كلهم عجزوا أن يثبتوا أمام هذا التحدي الإلهي { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين }
أين الجنود ؟ أين الملك ؟ أين الجاه ؟
أين الأكاسرة ؟ أين القياصرة ؟
أين الزعماء ؟
أتى على الكـل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القـوم ما كانوا
وصار ما كان من مُلكٍ ومن مَلِكٍ كما حكى عن خيال الطيف وسنان
مرض أبو بكرة رضي الله عنه واشتد مرضه .. فعرض عليه أبناؤه أن يأتوه بطبيب .. فأبى ..فلما نزل به الموت صرخ بأبنائه وقال : أين طبيبكم ؟ .. ليرّدها إن كان صادقاً ..
ووالله لو جاءه أطباء الدنيا .. ما ردوا روحه إليه ..
{ فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين * فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم * وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين * وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن هذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم } ..
إنه الموت ..
هادم اللذات .. ومفرق الجماعات .. وميتم البنين والبنات ..
* * * * * * * * * *
ومن تأمل في الموت علم أنه أمر كبّار .. وكأس تدار .. على من أقام أو سار .. يخرج به العباد من الدنيا إلى جنة أو نار ..
ولو لم يكن في الموت إلا الإعدام .. وانحلال الأجسام .. ونسيان أجمل الليالي
والأيام ..
لكان والله لأهل اللذات مكدراً .. ولأصحاب النعيم مغيراً ..
* * * * * * * * * *
وليست المشكلة في الموت .. فالموت باب وكل الناس داخله ..
لكن المشكلة الكبرى .. والداهية العظمى ..
ما الذي يكون بعد الموت ..
أفي { جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر } ..
أم في { ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر} ..
* * * * * * * * * *
ولأجل ذلك .. فالصالحون يشتاقون إلى لقاء ربهم .. ويعدون الموت جسراً يعبرون عليه إلى الآخرة ..
نعم .. يفرحون بالموت ما دام يقربهم إلى ربهم ..ذكر بعض المؤرخين .. أن العدو أغار على ثغر من ثغور الإسلام .. فقام عبد الواحد بن زيد وكان خطيب البصرة وواعظها .. فحث الناس على البذل والجهاد .. ووصف ما في الجنة من نعيم .. ثم وصف
الحور العين .. وقال :
غادة ذات دلال ومرح..خلقت من كل شيء حسن..أترى خاطبها يسمعها..يا حبيباً لست أهوى غيره...لا تكونن كمن جدّ إلى
لا فما يخطب مثلي من سها يجد الواصف فيها ما اقترح..طيب فالليت عنها مطرح ...إذ تدير الكأس طوراً والقدح...بالخواتيم يتم المفتتح...منتهى حاجته ثم جمح...إنما يخطب مثلي من ألحَّ
فاشتاق الناس إلى الجنة .. وارتفع بكاء بعضهم ..ورخصت عليهم أنفسهم في سبيل الله ..فوثبت عجوز من بين النساء .. هي أم إبراهيم البصرية وقالت :
يا أبا عبيد .. أتعرف ابني إبراهيم !
الذي يخطبه رؤساء أهل البصرة .. إلى بناتهم .. وأنا أبخل به ليهن
قد والله أعجبتني هذه الجارية وقد رضيتها عروساً لابني إبراهيم .. فكرر ما ذكرت من أوصاف .. لعله يشتاق ..
فقال أبو عبيد :
إذا ما بدت والبدر ليلة تمـــه رأيت لها فضـــلا مبينا على البدر
وتبسم عن ثغر نقى كـــأنه من اللؤلؤ المكنون في صــدف البحر
فلو وطئت بالنعل منها على الحصى لأزهــرت الأحجار من غير ما قطر ولو شئت عقد الخصر منها عقدته كغصن من الريحان ذي ورق خضـر ولو تفلت في البحر حلو لعابهـا لطاب لأهل البر شرب من البحر أبى الله إلا أن أموت صبــابة بساحرة العينين طيبـة النشر
فاضطرب الناس ..وكبروا ..
وقامت أم إبراهيم .. وقالت :
يا أبا عبيد .. قد والله رضيت بهذه الجارية زوجة لإبراهيم فهل لك أن تزوجها له في هذه الساعة ؟ وتأخذَ مني مهرها عشرة آلاف دينار لعل الله أن يرزقه الشهادة فيكون شفيعاً لي ولأبيه في القيامة ..
فقال عبد الواحد : لئن فعلت .. فأرجو والله أن تفوزوا فوزاً عظيماً فصاحت العجوز : يا إبراهيم .. يا إبراهيم ..
فوثب شاب نضر من وسط الناس وقال:لبيك يا أماه ..
فقالت : أي بنيَّ أرضيت بهذه الجارية زوجة لك ومهرها أن تبذل مهجتك في سبيل الله .. ؟
فقال : أي والله يا أماه ..
فذهبت العجوز مسرعة إلى بيتها ثم جاءت بعشرة آلاف دينار فوضعتها في حجر عبد الواحد ثم رفعت بصرها إلى السماء وقالت : اللهم إني أشهدك أني زوجت ولدي من هذه الجارية على أن يبذل مهجته في سبيلك فتقبله مني يا أرحم الراحمين
ثم قالت : يا أبا عبيد .. هذا مهر الجارية مني عشرةُ آلاف دينار
تجهَّز به وجهز الغزاة في سبيل الله ..
ثم انصرفت .. واشترت لولدها فرساً جيداً .. وسلاحاً حسناً وأخذت تعد الأيام لرحيله ..
وهي تودعه غي كل نظرة تنظرها .. وكلمة تسمعها والمجاهدون يعدون العدة للخروج فلما حان وقت النفير خرج إبراهيم يعدو والمجاهدون حوله يتسابقون والقراء حولهم يقرؤون :{ إن الله اشترى من .. }..
فلما أرادت فراق ولدها دفعت إليه كفناً وطيباً يطيب به الموتى ثم نظرت إليه وكأنما هو قلبها يخرج من صدرها ثم قالت :
يا بنيَّ إذا أردت لقاء العدو فالبس بهذا الكفن وتطيب بهذا الطيب وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله ..
ثم ضمته إلى صدرها وكتمت من عبرتها وأخذت تشمه وتودعه وتقبله ..
ثم قالت : اذهب يا بنيّ فلا جمع الله بيني وبينك .. إلا بين يديه يوم القيامة ..
فمضى إبراهيم والعجوز تتبعه بصرها حتى غاب مع الجيش فلما بلغوا بلاد العدو وبرز الناس للقتال أسرع إبراهيم إلى المقدمة فابتدأ القتال ورميت النبال وتنافس البطال
أما إبراهيم فقد جال بين العدو وصال وقاتل قتال الأبطال حتى قتل أكثر من ثلاثين من جيش العدو ..
فلما رأى العدو ذلك أقبل عليه جمع منهم هذا يطعنه وهذا يضربه وهذا يدفعه وهو يقاوم ويقاتل حتى خارت قواه ووقع من فرسه .. فقتلوه وانتصر المسلمون وهزم الكافرون ..
ثم رجع الجيش إلى البصرة فلما وصلوا البصرة تلقاهم الناس الرجال .. والعجائز .. والأطفال ..
وأم إبراهيم بينهم .. تدور عيناها في القادمين ..
فلما رأت عبد الواحد .. قالت : يا أبا عبيد !
هل قبل الله هديتي فأهنا ؟ أم رُدت علي فأعزى ؟
فقال لها : بل قبل الله هديتك ..
وأرجو أن يكون ابنك الآن مع الشهداء يرزق ..
فصاحت قائلة :
الحمد لله الذي لم يخيب فيه ظني وتقبل نسكي مني وانصرفت إلى بيتها وحدها بعدما فارقت ولدها يشتد شوقها فتأتي إلى فرشه فتشمها .. وإلى ثيابه فتقلبها حتى نامت فلما كان الغد جاءت أم إبراهيم إلى مجلس أبي عبيد وقالت :
السلام عليك يا أبا عبيد .. بشراك .. بشراك ..
فقال: لا زلت مبشرة بالخير يا أم إبراهيم .. ما خبرك ..؟
فقالت: رأيت البارحة ولدي إبراهيم في روضة حسناء وعليه قبة خضراء وهو على سرير من اللؤلؤ وعلى رأسه تاج يتلألأ وإكليل يزهر وهو يقول:
يا أماه أبشري قد قُبل المهر .. وزُفت العروس ..
نعم :
هؤلاء أقوام أيقنوا أنه لا مهرب من نزول الموت فسعوا إليه قبل أن يسعى إليهم ..
أحبّوا لقاء الله فأحبّ الله لقاءهم .. وبذلوا مهجهم رخيصة في سبيل الله تعالى ..
فما هو الجزاء ؟ يقول تعالى :
"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون *فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون* يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين
* الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " ..
* * * * * * * * * *
جزء من كتاب حدائق الموت للشيخ محمد العريفى حفظه الله