ر قصّة موسى الكليم عليه الصلاة والتسليم
بسم الله الرحمن الرحيم
وهو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولا نَبِيّاً، وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً، وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً» .
قال الله تعالى: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، طسم، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ» .
وقالى تعالى
«إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً » ، أي تجبّر وعتا وطغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، وأعرض عن طاعة الرّب الأعلى، وجعل أهلها شيعا، أي قسم رعيته إلى أقسام وفَرِقٍ وأنواع، يستضعف طائفة منهم، وهم شعب بني إسرائيل، الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله، وكانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض. وقد سلط عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر يستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع والحرف وأرداها وأدناها ومع هذا «يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ» .
وكان الحامل له على هذا الصنيع القبيح أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما يأثرونه عن إبراهيم عليه السلام من أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه وذلك - والله أعلم - حين كان جرى على سارة امرأة الخليل من ملك مصر من إرادته إياها على السوء وعصمة الله لها. وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل فتحدث بها القبط فيما بينهم ووصلت إلى فرعون فذكرها له بعض أمرائه وأساورته وهم يسمرون عنده فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل حذراً من وجود هذا الغلام ولن يغني حذر من قدر.
وذكر السدي عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة أن فرعون رأى في منامه كأن ناراً قد أقبلت من نحو بيت المقدس فأحرقت دور مصر وجميعَ القبط ولم تضر بني إسرائيل. فلما استيقظ هاله ذلك فجمع الكهنة والحزقة والسحرة وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: هذا غلام يولد من هؤلاء يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النسوان.
ولهذا قال الله تعالى: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ» وهم بنو إسرائيل «وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ» أي الذين يؤول ملك مصر وبلادها إليهم «وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ» أي سنجعل الضعيف قوياً والمقهور قادراً والذليل عزيزاً، وقد جرى هذا كله لبني إسرائيل كما قال تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسرائِيلَ بِمَا صَبَرُوا» الآية.
وقال تعالى: «فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إسرائِيلَ» وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه إن شاء الله.
والمقصود أن فرعون احترز كل الاحتراز أن لا يوجد موسى، حتى جعل رجالاً وقوابل يدورون على الحبالى ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكراً إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته.
وعند أهل الكتاب أنه إنما كان يأمر بقتل الغلمان لتضعف شوكة بني إسرائيل فلا يقاومونهم إذا غالبوهم أو قاتلوهم.
وهذا فيه نظر بل هو باطل، وإنما هذا في الأمر بقتل الولدان بعد بعثة موسى كما قال تعالى: «فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ» ولهذا قالت بنو إسرائيل لموسى «أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا» .
فالصحيح أن فرعون إنما أمر بقتل الغلمان أولاً حذراً من وجود موسى.
هذا، والقدر يقول: يا أيها ذا الملك الجبار المغرور بكثرة جنوده وسلطة بأسه واتساع سلطانه، قد حكم العظيم الذي لا يغالب ولا يمانع ولا تخالف أقداره، أن هذا المولود الذي تحترز منه، وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى لا يكون مرباه إلا في دارك، وعلى فراشك ولا يغذى إلا بطعامك وشرابك في منزلك، وأنت الذي تتبناه وتربيه وتتفداه، ولا تطلع على سر معناه. ثم يكون هلاكك في دنياك وأخراك على يديه، لمخالفتك ما جاءك به من الحق المبين، وتكذيبك ما أوحى إليه، لتعلم أنت وسائر الخلق أن رب السماوات والأرض هو الفعال لما يريد وأنه هو القويّ الشديد ذو البأس العظيم، والحول والقوة والمشيئة التي لا مرد لها.
وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن القبط شكوا إلى فرعون قلة بني إسرائيل بسبب قتل ولدانهم الذكور وخشي أن تتفانى الكبار مع قتل الصغار فيصيرون هم الذين يلون ما كان بنو إسرائيل يعالجون. فأمر فرعون بقتل الأبناء عاماً، وأن يتركوا عاما، فذكروا أن هارون عليه السلام ولد في عام المسامحة عن قتل الأبناء، وأن موسى عليه السلام ولد في عام قتلهم، فضاقت أمه به ذرعاً واحترزت من أول ما حبلت، ولم يكن يظهر عليها مخايل الحبل. فلما وضعت ألهمت أن تتخذ له تابوتاً ربطته في حبل وكانت دارها متاخمة للنيل فكانت ترضعه فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت فأرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها فإذا ذهبوا استرجعته إليها به.
قال الله تعالى: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ، وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .
هذا الوحي وحي إلهام وإرشاد، كما قال تعالى: «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا، يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا..» الآية.
وليس هو بوحي نبوة كما زعمه ابن حزم وغير واحد من المتكلمين، بل الصحيح الأول كما حكاه أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة.
قال السهيلي: واسم أم موسى «أيارخا» ، وقيل «أياذخت» . والمقصود أنها أرشدت إلى هذا الذي ذكرناه، وألقي في خلدها وروعها أن لا تخافي ولا تحزني فإنه إن ذهب فإن الله سيرده إليك وأن الله سيجعله نبياً مرسلاً يعلي كلمته في الدنيا والآخرة. فكانت تصنع ما أمرت به فأرسلته ذات يوم وذهلت أن تربط طرف الحبل عندها فذهب مع النيل فمر على دار فرعون «فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ»
قال الله تعالى: «لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً» قال بعضهم، هذه لام العاقبة، وهو ظاهر إن كان متعلقاً بقوله فالتقطه. وأما إن جعل متعلقاً بمضمون الكلام وهو أن آل فرعون قُيّضوا لالتقاطه ليكون لهم عدواً وحزناً صارت اللام معللة كغيرها والله أعلم. ويقوي هذا التقدير الثاني قوله «إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ » وهو الوزير السوء «وَجُنُودَهُمَا» المتابعين لهما «كَانُوا خَاطِئِينَ» أي كانوا على خلاف الصّواب فاستحقوا هذه العقوبة والحسرة.
وذكر المفسرون أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق عليه فلم يتجاسرون على فتحه حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف. وقيل إنها كانت من بني إسرائيل من سبط موسى. وقيل: بل كانت عمته. حكاه السهيلي فالله أعلم.
وسيأتي مدحها والثناء عليها في قصّة مريم بنت عمران وأنهما يكونان يوم القيامة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.
فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية والجلالة الموسوية، فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حباً شديداً جداً. فلما جاء فرعون قال: ما هذا؟ وأمر بذبحه، فاستوهبته منه ودفعت عنه «وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ» فقال لها فرعون: أما لك فنعم وأما لي فلا، أي لا حاجة لي به. والبلاء مُوكَّل بالمنطق وقولها: «عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا» وقد أنالها الله ما رَجَتْ من النفع. أما في الدنيا فهداها الله به، وأما في الآخرة فأسكنها جنته بسببه «أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» وذلك أنهما تبنياه، لأنه لم يكن يولد لهما ولد. قال تعالى: «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» أي لا يدرون ماذا يريد الله بهم حين قيضهم لالتقاطه من النقمة العظيمة بفرعون وجنوده؟
وعند أهل الكتاب: أن التي التقطت موسى - دربتة - ابنة فرعون، وليس لامرأته ذكر بالكلية، وهذا من غلطهم على كتاب الله عز وجل.
وقال الله تعالى: «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيدة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم، «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً» أي من كل شيء من أمور الدنيا، إلا من موسى «إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ» أي لتظهر أمره وتسأل عنه جهرة «لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا» أي صبرناها وثبتناها «لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَتْ لأُخْتِه» وهي ابنتها الكبيرة، «قُصِّيهِ» ، أي اتبعي أثره واطلبي لي خبره «فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ» قال مجاهد عن بعد. وقال قتادة: جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده. ولهذا قال «وَهُمْ لا يَشْعُرُون» وذلك لأن موسى عليه السلام لما استقر بدار فرعون أرادوا أن يغذوه برضاعة، فلم يقبل ثدياً ولا أخذ طعاماً، فحاروا في أمره واجتهدوا على تغذيته بكل ممكن فلم يفعل. كما قال تعالى «وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ» فأرسلوه مع القوابل والنساء إلى السوق لعلهم يجدون من يوافق رضاعته، فبينما هم وقوف به والناس عكوف عليه إذ بصرت به أخته فلم تظهر أنها تعرفه بل قالت: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ» . قال ابن عباس: لما قالت ذلك قالوا لها: ما يدريك بنصحهم وشفقتهم عليه؟ فقالت: رغبة في سرور الملك، ورجاء منفعته.
فأطلقوها وذهبوا معها إلى منزلهم، فأخذته أمه، فلما أرضعته التقم ثديها، وأخذ يمتصه ويرتضعه، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وذهب البشير إلى «آسية» يعلمها بذلك، فاستدعتها إلى منزلها وعرضت عليها أن تكون عندها، وان تحسن إليها فأبت عليها، وقالت إن لي بعلاً وأولاداً، ولست أقدر على هذا، إلا أن ترسليه معي، فأرسلته معها ورتبت لها رواتب، وأجرت عليها النفقات والكساوي والهبات، فرجعت به تحوزه إلى رحلها، وقد جمع الله شمله بشملها.
قال الله تعالى: «فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» أي كما وعدناها برده ورسالته، فهذا رده، وهو دليل على صدق البشارة برسالته «وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .
وقد امتن الله على موسى بهذا ليلة كلمه، فقال له فيما قال: «مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى، أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» وذلك أنه كان لا يراه أحد إلا أحبه «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» قال قتادة وغير واحد من السلف: أي تطعم وترفه وتغّذى بأطيب المآكل، وتلبس أحسن الملابس بمرأى مني وذلك كله بحفظي وكلائتي لك فيما صنعت بك ولك وقدرته من الأمور التي لا يقدر عليها غيري «إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» . وسنورد حديث الفتون في موضعه بعد هذا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان.
«وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» .
لما ذكر تعالى أنه أنعم على أمه برده لها وإحسانه بذلك وامتنانه عليها شرع في ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى وهو احتكام الخَلْق والخُلقُ وهو سن الأربعين في قول الأكثرين آتاه الله حكماً وعلماً وهو النبوة والرسالة التي كان بشّر بها أمه حين قال «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ» .
ثم شرع في ذكر سبب خروجه من بلاد مصر وذهابه إلى أرض مدين وإقامته هنالك، حتى كمل الأجل وانقضى الأمد، وكان ما كان من كلام الله له وإكرامه بما أكرمه به كما سيأتي.
قال تعالى: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا» قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي، وذلك نصف النهار. وعن ابن عباس بين العشائين.
«فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ» أي يتضاربان ويتهاوشان «هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ» أي إسرائيلي «وَهَذَا مِنْ عَدُوِّه» أي قبطي. قاله ابن عباس وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق.
«فَإسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ» ، وذلك أن موسى عليه السلام كانت له بديار مصر صولة بسبب نسبته إلى تبني فرعون له وتربيته في بيته وكانت بنو إسرائيل قد عزوا وصارت لهم وجاهة وارتفعت رؤوسهم بسبب أنهم أرضعوه وهم أخواله أي من الرضاعة فلما استغاث ذلك الإسرائيلي موسى عليه السلام على ذلك القبطي أقبل إليه موسى «فَوَكَزَهُ» . قال مجاهد: أي طعنة بجمع كفه. وقال قتادة بعصا كانت معه «فَقَضَى عَلَيْهِ» أي فمات منها.
وقد كان ذلك القبطي كافراً مشركاً بالله العظيم ولم يرد موسى قتله بالكلية وإنما أزاد زجره وردعه ومع هذا «قَالَ» موسى «هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ» أي من العز والجاه « فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» .
«فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» .
يخبر تعالى أن موسى أصبح بمدينة مصر خائفاً - أي من فرعون وملئه - أن يعلموا أن هذا القتيل الذي رفع إليه أمره إنما قتله موسى في نصرة رجل من بني إسرائيل فتقوى ظنونهم أن موسى منهم ويترتب على ذلك أمر عظيم.
فصار يسير في المدينة في صبيحة ذلك اليوم «خَائِفاً يَتَرَقَّبُ» أي يلتفت فبينما هو كذلك إذا ذلك الرجل الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس يستصرخه أي يصرخ به ويستغيثه على آخر قد قاتله، فعنّفه موسى ولامه على كثرة شره ومخاصمته، قال له: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» .
ثم أراد أن يبطش بذلك القبطي الذي هو عدو لموسى وللإسرائيلي فيردعه عنه ويخلصه منه فلما عزم على ذلك وأقبل على القبطي «قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ» .
قال بعضهم إنما قال هذا الكلام الإسرائيلي الذي اطلع على ما كان صنع موسى بالأمس، وكأنه لما رأى موسى مقبلاً إلى القبطي اعتقد أنه جاء إليه لما عنفه قبل ذلك بقوله «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» ، فقال ما قال لموسى وأظهر الأمر الذي كان وقع بالأمس، فذهب القبطي فاستعدى موسى إلى فرعون. وهذا الذي لم يذكر كثير من الناس سواه. ويحتمل أن قائل هذا هو القبطي. وأنه لما رآه مقبلاً إليه خافه ورأى من سجيته جيداً للإسرائيلي، فقال ما قال من باب الظن والفراسة، إن هذا لعله قاتل ذاك القتيل بالأمس أو لعله فهم من كلام الإسرائيلي حين أستصرخه عليه ما دله على هذا والله أعلم.
والمقصود أن فرعون بلغه أن موسى هو قاتل ذلك المقتول بالأمس فأرسل في طلبه وسبقهم رجل ناصح من طريق أقرب «وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ» ساعياً إليه مشفقاً عليه فقال «يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ» أي من هذه البلدة «إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ» أي فيما أقوله لك.
قال الله تعالى «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ» أي فخرج من مدينة مصر من فوره على وجهه لا يهتدي إلى طريق ولا يعرفه قائلاً «رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» .
يخبر تعالى عن خروج عبده ورسوله وكليمه من مصر خائفاً يترقب أي يتلفت خشية أن يدركه أحد من قوم فرعون وهو لا يدري أين يتوجه، ولا إلى أين يذهب، وذلك لأنه لم يخرج من مصر قبلها.
«وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ» أي اتجه له طريق يذهب فيه «قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ» . أي عسى أن تكون هذه الطريق موصلة إلى المقصود. وكذا وقع، فقد أوصلته إلى المقصود، وأي مقصود.
«وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ» وكانت بئراً يستقون منها. ومدين هي المدينة التي أهلك الله فيها أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب عليه السلام. وقد كان هلاكهم قبل زمن موسى عليه السلام في أحد قولي العلماء.
وَلَمَّا وَرَدَ المَاءَ المذكور «وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ» أي تكفكفان عنهما غنمهما أن تختلط بغنم الناس.
وعند أهل الكتاب أنهن كن سبع بنات. وهذا أيضاً من الغلط ولعلهن كن سبعاً ولكن إنما كان تسقى اثنتان منهن. وهذا الجمع ممكن أن كان ذاك محفوظاً، وإلا فالظاهر أنه لم يكن له سوى بنتين «قَالَ
مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ» أي لا نقدر على ورود الماء إلا بعد صدور الرعاء لضعفنا وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره قال الله تعالى «فَسَقَى لَهُمَا» .
قال المفسرون: وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة فتجئ هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام الناس، فلما كان ذلك اليوم جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده. ثم استقى لهما وسقى غنمهما ثم رد الحجر. كما كان. قال أمير المؤمنين عمر وكان لا يرفعه إلا عشرة وإنما استقى ذنوباً واحدا فكفاهما.
ثم تولى إلى الظل. قالوا: وكان ظل شجرة من السمر. وروى ابن جرير عن ابن مسعود أنه رآها خضراء ترف «فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» .
قال ابن عباس: سار من مصر إلى مدين لم يأكل إلا البقل وورق الشجر وكان حافياً فسقطت نعلا قدميه من الحفاء، وجلس في الظل - وهو صفوة الله من خلقه - وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه، وأنه لمحتاج إلى شق تمرة.
قال عطاء بن السائب لما قال: «رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» أسمع المرأة.
«فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ، قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ، قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ» .
لما جلس موسى عليه السلام في الظل وقال «فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» سمعته المرأتان فيما قيل فذهبتا إلى أبيهما فيقال إنه استنكر سرعة رجوعهما؛ فأخبرتاه بما كان من أمر موسى عليه السلام، فأمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه، «فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ» ، أي مشى الحرائر، «قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا» . صرحت له بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة. وهذا من تمام حيائها وصيانتها، «فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ» وأخبره خبره، وما كان من أمره في خروجه من بلاد مصر فراراً من فرعونها «قَالَ» له ذلك الشيخ «لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» أي خرجت من سلطانهم فلست في دولتهم.
وقد اختلفوا في هذا الشيخ من هو؟ فقيل هو شعيب عليه السلام. وهذا هو المشهور عند كثيرين وممن نص عليه: الحسن البصري ومالك بن أنس. وجاء مصرحاً به في حديث ولكن في إسناده نظر.
وصرح طائفة بأن شعيباً عليه السلام عاش عمراً طويلاً بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام، وتزوج بابنته.
وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الحسن البصري: أن صاحب موسى عليه السلام هذا اسمه شعيب، وكان سيد الماء، ولكن ليس بالنبي صاحب مدين. وقيل: إنه ابن أخي شعيب. وقيل ابن عمه. وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب. وقيل رجل اسمه «يثرون» ، هكذا هو في كتب أهل الكتاب: يثرون كاهن مدين. أي كبيرها وعالمها.
وقال ابن عباس وأبو عبيدة بن عبد الله اسمه يثرون. زاد أبو عبيدة وهو ابن أخي شعيب. وزاد ابن عباس صاحب مدين.
والمقصود أنه لما أضافه واكرم مثواه وقص عليه ما كان أمره بشره بأنه قد نجا، فعند ذلك قالت إحدى البنتين لأبيها «يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ» أي لرعي غنمك، ثم مدحته بأنه قوي أمين.
قال عمر وابن عباس وشريح القاضي وأبو مالك وقتادة ومحمد بن إسحاق وغير واحد: لما قالت ذلك قال لها أبوها وما علمك بهذا؟ فقالت إنه رفع صخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة. وأنه لما جئت معه تقدمت أمامه فقال كوني من ورائي فإذا اختلف الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق.
قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة . صاحب يوسف حين قال لامرأته «أَكْرِمِي مَثْوَاهُ» ، وصاحبة موسى حين قالت «أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ» ، وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب «قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ» .
استدل بهذا جماعة من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله على صحة ما إذا باعه أحد هذين العبدين أو الثوبين ونحو ذلك أنه يصح لقوله «إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ» .
وفي هذا نظر لأن هذه مراوضة لا معاقدة والله أعلم.
واستدل أصحاب أحمد على صحة الاستئجار بالطعمة والكسوة كما جرت به العادة وأستأنسوا بالحديث الذي رواه ابن ماجة في سننه مترجماً عليه كتابه «باب استئجار الأجير على طعام بطنه» حدثنا محمد بن المصفى الحمصي، حدثنا بقية بن الوليد، عن مسلمة بن علي، عن سعيد بن أبي أيوب، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح قال: سمعت عتبة بن الندر يقول: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال: «إن موسى عليه السلام آجر نفسه ثماني سنين أو عشرة سنين على عفة فرجه وطعام بطنه» .
وهذا الحديث من هذا الوجه لا يصح، لأن مسلمة بن علي الحسني الدمشقي البلاطي ضعيف عند الأئمة لا يحتج بتفرده ولكن قد روى من وجه آخر فقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكر، حدثني ابن لهيعة. ح وحدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان حدثنا الوليد، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الخضرمي، عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن النُدّر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله قال: «إن موسى عليه السلام آجر نفسه لعفة فرجه وطعمة بطنه» .
ثم قال تعالى: «ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ» يقول: إن موسى قال لصهره: الأمر على ما قلت فأيّهما قضيت فلا عدوان علي، والله على مقالتنا سامع وشاهد، ووكيل عليّ وعليك. ومع هذا فلم يقضِ موسى إلاّ أكملَ الأجلين، وأتمهما وهو العَشْر سنين كوامل تامة.
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان بن شجاع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال سألني يهوديّ من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى فقلت: لا أدري حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس؟ فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إنَّ رسول الله إذا قال فعل.
تفرد به البخاري من هذا الوجه، وقد رواه النسائي في حديث الفتون، كما سيأتي، من طريق القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير به.
وقد رواه ابن جرير، عن أحمد بن محمد الطوسي، وابن أبي حاتم عن أبيه، كلاهما عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة، حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سألت جبريل: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما» .
وإبراهيم هذا غير معروف إلا بهذا الحديث. وقد رواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن أعين، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة عن ابن عباس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكره.
وقد رواه سنيد عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مرسلاً: أن رسول الله سأل عن ذلك جبريل؟ فسأل جبريل إسرافيل؟ فسأل إسرافيل الرب عز وجل؟ فقال: «أبرهما وأوفاهما» .
وبنحوه رواه ابن أبي حاتم من حديث يوسف بن سرج مرسلاً.
ورواه ابن جرير من طريق محمد بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأجلين قضى موسى؟ قال: «أوفاهما وأتمهما» .
وقد رواه البزار وابن أبي حاتم من حديث عويد بن أبي عمران الجوني - وهو ضعيف - عن أبيه عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: «أوفاهما وأبرهما. قال وإن سئلت أي المرأتين تزوج؟ فقل: الصغرى منهما» .
وقد رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الخضرمي، عن علي بن رباح، عن عتبة بن النُدْر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن موسى آجر نفسه بعفة فرجه وطعام بطنه. فلما وفى الأجل، قيل: يا رسول الله أي الأجلين؟ قال: أبرهما وأوفاهما» .
فلما أراد فراق شعيب، - سأل امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به، فأعطاها ما ولدت من غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام، وكانت غنمه سوداء حساناً فانطلق موسى عليه السلام إلى عصا قسمها من طرفها، ثم وضعها في أدنى الحوض، ثم أوردها فسقاها، ووقف موسى عليه السلام بإزاء الحوض فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة قال - فأتأت وألبنت- ووضعت كلها قوالب ألوان، إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش، ولا ضبوب، ولا عزوز، ولا ثعول، ولا كموش تفوت الكف، قال النبي صلى الله عليه وسلم «لو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية» .
قال ابن لهيعة: الفشوش: واسعة الشخب، والضبوب: طويلة الضرع تجره، والعزوز. ضيقة الشخب، والثعول: الصغيرة الضرع كالحلمتين، والكموش: التي لا يحكم الكف على ضرعها لصغره.
وفي صحة رفع هذا الحديث نظر. وقد يكون موقوفاً، كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك قال: لما دعا نبي الله موسى صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما قال له صاحبه: كل شاة ولدت على لونها فلك ولدها. فعمد موسى فوضع حبالاً على الماء فلما رأت الحبال فزعت فجالت جولة، فولدن كلهن بلقاً إلا شاة واحدة فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام. وهذا إسناد جيد رجاله ثقات، والله أعلم.
وقد تقدم عن نقل أهل الكتاب عن يعقوب عليه السلام حين فارق خاله لابان أنه أطلق له ما يولد من غنمه بلقاً ففعل نحو ما ذكر عن موسى عليه السلام فالله أعلم.
قال الله تعالى «فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ، اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ» .
تقدم أن موسى قضى أتم الأجلين وأكملهما وقد يؤخذ هذا من قوله «فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ» وعن مجاهد أنه أكمل عشراً وعشراً بعدها.
وقوله: «وَسَارَ بِأَهْلِهِ» أي من عند صهره ذاهباً فيما ذكره غير واحد من المفسرين وغيرهم أنه اشتاق إلى أهله فقصد زيارتهم ببلاد مصر في صورة مختف، فلما سار بأهله ومعه ولدان منهم، وغنم قد استفادها مدة مقامه.
قالوا: واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة وتاهوا في طريقهم فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب المألوف، وجعل يوري زناده فلا يرى شيئاً، واشتد الظلام والبرد.
فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد ناراً تأجّج في جانب الطّور - وهو الجبل الغربي منه عن يمينه - فـ «قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً» ، وكأنه والله أعلم رآها دونهم، لأنّ هذه النار هي نور في الحقيقة، ولا يصلح رؤيتها لكل أحد «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ» أي لعلي أستعلم من عندها عن الطريق «أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة ومظلمة لقوله في الآية الأخرى «وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى» فدل على وجود الظلام وكونهم تاهوا عن الطريق وجمع الكل في سورة النمل في قوله «إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» . وقد أتاهم منها بخبر، وأي خبر ووجد عندها هدى، وأيُّ هدى واقتبس منها نوراً، وأي نور.
قال الله تعالى: «فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» .
وقال في النمل «فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» أي سبحان الله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد «يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .
وقال في سورة طه «فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي، إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى» .
قال غير واحد من المفسرين من السلف والخلف: لما قصد موسى إلى تلك النار التي رآها فانتهى إليها وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج، وكل ما لتلك النار في اضطرام وكل ما لخضرة تلك الشجرة في ازدياد، فوقف متعجباً، وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه، كما قال تعالى: «وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ» وكان موسى في واد اسمه «طوى» فكان موسى مستقبل القبلة، وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب «إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى» فأمر أولاً بخلع نعليه تعظيماً وتكريماً وتوقيراً لتلك البقعة المباركة ولاسيما في تلك الليلة المباركة.
وعند أهل الكتاب أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور مهابة له وخوفاً على بصره.
ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلاً له: «إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي» أي أنا رب العالمين الذي لا إله إلا هو الذي لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له.
ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار وإنما الدار الباقية يوم القيامة التي لابد من كونها ووجودها «لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى» أي من خير وشر. وحضه وحثه على العمل لها ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصى مولاه واتبع هواه. ثم قال له مخاطباً ومؤانساً ومبيناً له أنه القادر على كل شيء، والذي يقول للشيء كن فيكون. «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى» أي أما هذه عصاك التي تعرفها منذ صحبتها؟ «قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى» أي بلى هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها. «قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى، فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى» .
وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء: كن فيكون وأنه الفعّال بالاختيار.
وعند أهل الكتاب: أنه سأل برهاناً صادقاً على صدقه عند من يكذبه من أهل مصر، فقال له الرب عز وجل ما هذه التي في يدك؟ قال: عصاي، قال ألقها إلى الأرض «فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى» فهرب موسى من قدامها، فأمره الرب عز وجل أن يبسط يده ويأخذها بذنبها، فلما استمكن منها ارتدت عصا في يده.
وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: «وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» أي قد صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة وأنياب تصك وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان وهو ضرب من الحيات يقال الجان والجنان وهو لطيف، ولكن سريع الاضطراب والحركة جداً، فهذه جمعت الضخامة والسّرعة الشديدة، فلمّا عاينها موسى عليه السلام «وَلَّى مُدْبِراً» أي هارباً منها لأن طبيعته البشرية تقتضي ذلك «وَلَمْ يُعَقِّبْ» أي ولم يتلفت، فناداه ربه قائلاً له: «يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ» .
فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها. «قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى» . فيقال إنّه هابها شديداً، فوضع يده في كم مدرعته ثم وضع يده في وسط فمها. وعند أهل الكتاب أمسك بذنبها، فلما استمكن منها، إذا هي قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين، فسبحان القدير العظيم رب المشرقين والمغربين!
ثم أمره تعالى بإدخال يده في جيبه. ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضاً من غير سوء، أي من غير برصٍ ولا بَهَق. ولهذا قال: «اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ» قيل: معناه: إذا خفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك. وهذا وإن كان خاصاً به إلا أن بركة الإيمان به حق بأن ينفع من استعمل ذلك على وجه الاقتداء بالأنبياء.
وقال في سورة النمل: «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ» أي هاتان الآيتان وهما العصا واليد وهما البرهانان المشار إليهما في قوله «فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ» ومع ذلك سبع آيات أخر فذلك تسع آيات بينات وهي المذكورة في آخر سورة سبحان حيث يقول تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إسرائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً، قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» .
وهي المبسوطة في سورة الأعراف في قوله: «وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ، وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» كما سيأتي الكلام على ذلك في موضعه.
وهذه التسع آيات غير العشر الكلمات، فإنَّ التسع من كلمات الله القدرية والعشر من كلماته الشرعية، وإنما نبهنا على هذا لأنه قد اشتبه أمرها على بعض الرُّواه فظن أن هذه هي هذه كما قررنا ذلك في تفسير آخر سورة بني إسرائيل.
والمقصود أن الله سبحانه لما أمر موسى عليه السلام بالذّهاب إلى فرعون «قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي، وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي، قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ» .
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام في جوابه لربه عز وجل حين أمره بالذّهاب إلى عدوه الذي خرج من ديار مصر فراراً من سطوته وظلمه حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي ولهذا «قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي، وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي» . أي اجعله معي معيناً وردءاً ووزيراً يساعدني ويعينني على أداء رسالتك إليهم فإنه أفصح مني لساناً وأبلغ بياناً.
قال الله تعالى مجيباً له إلى سؤاله «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً» أي برهاناً «فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا» أي فلا ينالون منكما مكروهاً بسبب قيامكما بآياتنا. وقيل ببركة آياتنا «أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ» .
وقال في سورة طه «اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي» قيل إنه أصابه في لسانه لثغة بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه والتي كان فرعون أراد اختبار عقله حين أخذ بلحيته وهو صغير، فهمَّ بقتله فخافت عليه آسية، وقالت: إنه طفل فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه، فهمَّ بأخذ التمرة فصرف الملك يده إلى الجمرة فأخذها فوضعها على لسانه فأصابه لثغة بسببها، فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله، ولم يسأل زوالها بالكلية.
قال الحسن البصري: والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة. ولهذا بقيت في لسانه بقية.
ولهذا قال فرعون قبحه الله فيما زعم إنه يعيب به الكليم: «وَلا يَكَادُ يُبِينُ» أي يفصح عن مراده ويعبر عما في ضميره وفؤاده.
ثم قال موسى عليه السلام «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً، قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى» .
أي قد أجبناك إلى جميع ما سألت وأعطيناك الذي طلبت وهذا من وجاهته عند ربه عز وجل حين شفع أن يوحى الله إلى أخيه فأوحى إليه وهذا جاه عظيم قال الله تعالى: «وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» .
وقال تعالى: «وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً» .
وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلاً يقول لأناس وهم سائرون في طريق الحج: أيُّ أخٍ أمَنُّ على أخيه؟ فسكت القوم، فقالت عائشة لمن حول هودجها: هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه هارون فأوحى إليه. قال الله تعالى: «وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً» .
وقال تعالى في سو