مريم بنت عمران. كانت رجاءا قبل أن تولد، كانت نذرا لخدمة بيت الله في القدس، كانت أمنية من أماني أمها حنّة بنت فاقوذ، ولما ولدت وكبرت وإشتد عودها أصبحت أما لنبي مبارك، ولادته كانت معجزة، وحياته كانت معجزات.
كانت حنة بنت فاقوذ عاقرا، لم ترزق بولد، وطالما تمنته، لتقر عينها بطلعته، وتمتّع النفس بإبتسامته ومرحه.
وكانت كلما رأت أمومة الطير في طائر يحنو على فرخه ويطعمه، أو إمرأة تحمل طفلها، زادت رغبتها واشتدت، وتاقت نفسها وتمنت، أن يكون لها نصيب من هذه السعادة التي ما بعدها سعادة، إنها فرحة الأمومة وسعادة الأم بطفولة وليدها.
طال العمر وتقدمت السنون بحنة وزوجها عمران بن ماثان، أحد أحبار بني إسرائيل، ولكن إرادة الله لم تأذن حتى بعد هذا العمر الطويل بولد يملئ عليهما حياتهما، إلا أنهما لم ييأسا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
والتجأت حنة إلى الله رب السموات والارض، وتوسلت إليه في خضوع صادق وخشوع عابد، ونذرت له إن حققّ لها ما تمنت، ورزقها بولد، تصدقت به على بيت المقدس فيكون خادما مخلصا، وعاهدت نفسها على ألا تسخّره لشئ غير هذا الذي نذرته له، فهو لخدمة هذا البيت محرّرا، ولسدانته مخلصا. ولم تنتظر من وليدها ليكون معينا لها في معاشها أو غير ذلك من شؤون الدنيا.
ولم تمضي فترة زمنية طويلة على دعائها حتى أجاب الله دعاءها وحقق لها ما تمنت، فشعرت بالجنين يتحرك بين أحشائها، فاغتبطت لذلك، وأشرق وجهها بإبتسامة دائمة، ملأت بها الدنيا على زوجها، فراحت إليه تبشره بما أحست به. ومرّت الأيام جميلة لا تخلو من هنّات الفرح في بيت عمران بن ماثان، وزوجته تعالج أيام الحمل وآلامه بفرح وشغف ليوم مجيئ وليدها المرتقب، ولكن الدنيا لا تدوم على حال، ولا تستقر على منوال واحد، فقد مات عمران بن ماثان قبل أن يرى وليده النور، وتبدلت سعادة حنة بنت فاقوذ إلى شقاء، وعادت سمات الحزن تعلو وجهها النضر، وأصبحت فاترة عليلة لما أصاب هذا الثغر الطاهر، ولكن قضاء الله حقّ، ولا رادّ لقضائه.
جاءت إيشاع لزيارة أختها حنة ومشاكتها العزاء في وفاة زوجها وكان بصحبتها زكريا بن برخيا عليه السلام، الذي طيّب خاطرها وزادها علما أن هذا قضاء الله لا راد له أبدا.
فقالت حنة: ولكني كنت أوّد أن يطول به العمر حتى يرى إبنه.
فقالت إيشاع: يا أختاه، وما يدريك أنه إبن وليست إبنة؟ من يدريك أنه ذكر أم أنثى؟
وأضاف زكريا عليه السلام: نعم، هذا من علم الله سبحانه وتعالى، يعلم ما في الأرحام.
وجاء يوم المخاض، وسعدت به حنة، ووضعت وليدها فإذا بها أنثى، بنتا وليست ولدا، فتوجهت إلى ربها قائلة: ربّ إنّي وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم.
كانت ستهب مولودها لبيت المقدس، تقربا إلى الله ولكنها أنثى، أصابها الحزن بعض الوقت، وسمتها مريم وتوجهت بالدعاء إلى الله بأن يرعاها ويعصمها بكرمه وجوده ورحمته، وأن يجعل إسمها الذي يحمل معنى العبادة مطابقا لسلوكها.
رحم الله ضعفها وبدد حزنها واستجاب لدعائها. حملت مريم إلى بيت المقدس وأودعتها بين يدي أحبار الهيكل وسدن البيت وخدمه، وأسلمت أمر فتاتها إلى الله عز وجل.
كان عدد الأحبار ثلاثين حبرا، تنافسوا على مريم، لأنها إبنة رجل صالح هو عمران بن ماثان فاعترض زكريا عليه السلام على الأحبار بحكم قرابته من مريم. لكن النزاع إشتد حول من يكفل مريم وطال الجدل، وفي النهاية إتفقوا على أن يقترعوا فيما بينهم على من يكفل مريم. ألق الأحبار بأقلامهم في النهر فغاصت جميعها إلا قلم زكريا فقد طفا على سطح الماء، فنزل الجميع على رغبة زكريا، فتكفلها وحملها إلى خالتها حتى يتسنى له أن يبني لها غرفة في الهيكل كي يهيئ لها أفضل الظروف للعبادة بعيدا عن الناس.