الاسراف في الاسلام ، ما هو الاسراف في الاسلام
الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلل فلا هادي له، وأشهـد أن لا إله إلا الله وحـدَه لا شريك له، وأشهـد أن محمدًا عبده ورسوله؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾[آل عمران: 102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فإنَّ أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخَيْر الهَدْي هَدْي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرّ الأمور مُحْدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، من طبيعة البشر التوسُّعُ في النفقاتِ، والمبالغةُ في الاستهلاك، وهَدرُ الأموال عند أولِ شعورٍ بالثراء واليَسار، ولا يعرفون أيَّ معنًى لوفرةِ المالِ إذا لم يصاحبها استهلاكٌ أكثر، ورفاهيةٌ أشمل، وتمتُّعٌ بالكماليَّات أوسع، وقد صرَّح القرآنُ بأنَّ من طبيعة الإنسانِ السّرف عند الجدة، وتجاوز حدود القصد والاعتدال؛ ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6 - 7]، ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27].
ولتهذيب الإنسان وتربيته أمَرَ الله - تعالى - بالقصْدِ في الأمور كلِّها، حتى في أمور العبادات؛ كيلا يملَّها العبدُ؛ قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((والقصْدَ القصْدَ تَبْلُغوا))؛ أخرجه البخاري، وبوَّبَ عليه بقوله: "بابُ القصد والمداومةِ على العمل"[1].
وضدُّ القصد: السرف، وهو منهيٌّ عنه؛ ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، قال عطاء - رحمه الله تعالى -: "نُهوا عن الإسراف في كلِّ شيءٍ"[2].
ويُطلقُ الإسرافُ على الكفْر؛ فمَن أسْرَفَ على نفسه بالعصيان حتى وَقَعَ في الكفر فهو مُسْرِفٌ على نفسه، كما كان فرعونُ من المسرفين؛ ﴿ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [يونس: 83]، وعاقبةُ هذا الصنف من الناس النارُ خالدين فيها إنْ لم يتوبوا ويؤمنوا؛ ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 127]، وفي آية أخرى قال - تعالى -: ﴿ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ [غافر: 43].
والعبدُ مأمورٌ إذا أسرَفَ على نفسه بالعصيان أنْ يتوبَ إلى الله - تعالى - فإنَّه - تعالى - يقبلُ توبته مَهْمَا عَظُمَ جُرْمُه، وكَثُرَ إسرافُه؛ ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، ومن دعاء عبادِ الله الصالحين: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا ﴾ [آل عمران: 147].
والإسرافُ في شراء الأطعمة وأكلها أو رَمْيِها من مواطنِ النهي الجَلِي في القرآن؛ ﴿ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141].
وكذا الإسرافُ في الملابس والمراكب والأثاث وغيرها مُحرَّم؛ ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كلوا وتصدَّقوا والْبسوا في غير إسرافٍ ولا مخيلة))؛ رواه النسائي، وابن ماجه[3].
وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من التنعُّم ولو كان بالمباحات؛ لأنه مظنةٌ للسرف وتضييع المال؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إيَّاكم والتنعُّم؛ فإنَّ عبادَ الله ليسوا بالمتنعمين))؛ رواه أحمد، ورجاله ثِقات[4].
وهذا التشديدُ في النهي عن السرف ما كان إلا لأجلِ الحِفاظ على الأموال والموارد التي يُسألُ عنها العبدُ يوم القيامة، فهو يُسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفَيمَ أنفقه؟
والسرفُ يعارضُ حِفْظَ المال، بل يتلفه ويؤدِّي إلى إفقارِ نفسه، ومِن ثَمَّ إفقارُ أهل بيته وقَرَابته وأُمَّته، والله - تعالى - كَرِه لنا قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.
إنَّ حِفْظَ المال فيه حِفْظُ الدين والعِرْض والشرف، والأمم التي لا تمتلكُ المالَ لا يحترمها الآخرون، والشخصُ الذي ليس له قوةٌ من مال أو جاه لا يَنْظر الناسُ إليه، ولا يأبهون به، ومن أجلِ ذلك قال الحكماء: "مَن حَفظَ مالَه، فقد حَفظَ الأكْرَمَيْنِ؛ الدين، والعِرْض))[5].
ولم تحرِّم الشريعة اكتسابَ الأموالِ ونماءَها والتزود منها، بل حضَّت على ذلك، ولكنَّها حرَّمتِ الطرقَ المحرَّمة في كَسْبِه وإنفاقِه.
وإن من الطرق المحرَّمة في إنفاقه السرف فيه، وإهداره بغير حقٍّ؛ إما في سفر محرَّم، وإما في حفلة زواج باهظة الثمن، وإن ما ينفقُ من أموالٍ على السفر إلى بلاد الكفر والفجور ليعدل ميزانيَّات دولٍ كاملة، وما ينفقُ على حفلات الأعراس التي يُلقى فائضُ أطعمتها في النفايات، لَينقذ الملايين ممن يموتون جوعًا، وفي كل عام يموت الآلاف من البشر جوعًا، فهل من حفظِ المال هدرُه بأية طريقة؟! وهل مِنْ شُكْر الله - تعالى - على نعمته إنفاقُه فيما يسخطه - سبحانه وتعالى؟!
هل جاءَ الصيف وجاءَ معه هدرُ الأموالِ وإتلافُها، وفي المسلمين مشردون محرومون، لا يجدون ما يسدُّ جَوْعَتَهم، ولا ما يكسوا عَوْرَتَهم؛ في فلسطين والشيشان وكشمير وغيرها من بلاد المسلمين المنكوبة؟!
هل من معاني الأخوة في الدين أن تستمتعَ - أيها المسلم - بما أعطاك الله - تعالى - فيما حرَّم عليك، وأنت ترى مآسي إخوانك المسلمين؟ ولو لَم يوجد مسلمٌ على وجه الأرض يحتاج إلى جزءٍ من مالك يسدُّ رَمَقَه، ويُبقي على حياته، لَمَا جاز لك أن تهدرَ مالك في غير الحقِّ، فكيف والمسلمون يموت منهم في كلِّ يوم العشرات، بل المئات من جرَّاء التجويع والحصار والحِرْمان؟!
إنَّ عدمَ الاهتمام بذلك قد يكون سببًا للعقوبة وزوال الأموال، وإفقار الناس؛ حتى يتمنَّى الواحدُ منهم ما كان يُلْقِي بالأمس في النفايات، عياذًا بالله مِن ذلك!
فاحذروا سخطَ الله - تعالى - وارعوا نعمته، وإيَّاكم وطاعة النساءِ والأولاد في السرف وتضييع الأموالِ في الحفلات الباهظة، والأعراس المتكلفة، والسفر المحرَّم؛ فإن لذَّةَ المحرَّم تزولُ، ويبقى الوزرُ على ظهرك، وكلُّ مَن أمَرَك بمعصية الله - تعالى - ودَفَعَك إليها، فهو عَدُوٌّ لك؛ فاحذره وإياك وطاعته، ولو كان أقربَ الناس إليك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 14- 17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويَرْضَى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلم يكنْ مِن هَدْي السلف الصالح الإسرافُ وتضييع الأموال، بل كانوا مقتصدين ينفقون أموالَهم في الحقِّ، ويحفظونها عن الإنفاق فيما لا فائدة فيه؛ قال الحسن - رحمه الله تعالى -: "كانوا في الرِّحال مخاصيب، وفي الأثاث والثياب مجاديب"[6].
قال الزبيدي: "أي: ما كانوا يعتنون بالتوْسعة في أثاث البيت؛ من فُرش ووسائد وغيرها، وفي ثياب اللبس وما يجري مجراها، كما يتوسَّعون في الإنْفاقِ على الأهل"[7].
لقد كانوا - رحمهم الله - مع زُهْدهم ووَرَعِهم يعتنون بقليل المال، ولا يحتقرون منه شيئًا، مع اقتصادٍ في المعيشة والنفقة؛ ولذا كانَ القليلُ من المال يكفيهم.
وقد أبصرتْ أمُّ المؤمنين ميمونة - رضي الله عنها - حبَّةَ رُمَّانٍ في الأرض، فأخذتْها وقالتْ: "إنَّ الله لا يحبُّ الفسادَ"[8].
وقال أحمد بن محمد البراثي: "قال لي بشرُ بن الحارث: لَمَّا بلغه ما أُنفق من تَرِكَة أبينا: قد غمَّني ما أُنفِق عليكم من هذا المال؛ ألا فعليكم بالرِّفْق والاقتصاد في النفقة؛ فلأن تبيتوا جياعًا ولكم مالٌ، أعجبُ إليّ من أنْ تبيتوا شباعًا وليس لكم مالٌ"، ثم قالَ له: "أقْرِئ على والدتك السلامَ، وقُلْ لها: عليكِ بالرِّفْق والاقتصاد في النفقة"[9].
والْتَقَطَ أبو الدرداء - رضي الله عنه - حبًّا مَنْثُورًا في غرْفةٍ له، وقال: "إن مِن فِقْه الرجلِ رِفْقَه في معيشته"[10].
وقال عمر - رضي الله عنه -: "الخرقُ في المعيشة أخوفُ عندي عليكم من العوزِ، لا يقلّ شيءٌ مع الإصلاح، ولا يبقى شيءٌ مع الفساد"[11]، وأخبارهم في ذلك كثيرة.إنَّ السرفَ في العصور المتأخِّرة تحوَّل مِن سلوكٍ فردي لدى بعض التجَّار والواجدين إلى ظاهرةٍ عامة تجتاح الأمة كلَّها؛ فالواجدُ يُسرف، والذي لا يجدُ يقترضُ من أجل أنْ يُسْرفَ ويلبِّي متطلبات أُسْرته من الكماليَّات، وما لا يحتاجون إليه، وهذا من إفرازات الرأسماليَّة العالميَّة التي أقنعتِ الناس بذلك عبر الدعاية والإعلان في وسائل الإعلام المختلفة.
إن المذاهبَ الرأسماليَّة ترى أنَّ المحرِّك الأساس للإنتاج هو الطلب، فحيثما وُجِدَ الطلبُ وُجِدَ الإنتاج، ومن ثَمَّ فإن الإعلانات التجارية تتولَّى فَتْحَ شهيَّة المستهلك للاستهلاك، وتُلْقِي في رَوْعِه أنه إذا لم يستهلك السلع المعْلَن عنها، فسيكونُ غير سعيدٍ وغير فَعّال، وسيظهرُ بمظهرٍ غير لائقٍ، وهذا كلُّه جَعَلَ الناسَ يلهثون خَلْف سِلعٍ كماليَّة، ويبكون عليها كما يبكي المولود في طلبِ الرضاعة[12].
وأضحى ربُّ الأسرة المستورة يستدينُ بالربا من البنوك؛ لتلبية رغبة أُسْرته في السفر للخارج، أو لإقامة حفلةِ زواجٍ لابنه أو ابنته تليق بواقع الناس، وهكذا يُقَال في العمران والأثاثِ والمراكبِ والملابس والمطاعم وغيرها، بينما نلحظُ أنَّ منهجَ الإسلام تربيةُ الناس على الاستغناء عن الأشياء بدلاً من الاستغناء بها؛ حتى لا تستعبدهم المادة، كما هو حال كثير من الناس اليوم؛ إذ أصبحوا منساقين بلا إرادة، ولا تبصُّر إلى الإسراف وهَدر الأموالِ فيما لا ينفعُ؛ تقليدًا للغير.
فاتقو الله ربَّكم، واحفظوا أموالكم، وخذوها من حقٍّ، وأنفقوها في الحقِّ؛ فإنكم مسؤولون عنها يوم القيامة.
وصلوا وسلموا على نبيِّكم كما أمركم بذلك ربُّكم.