من منا لا يخطىء ؟
ومن منا يدعي لنفسه العصمة ؟
إن الوقوع في الخطأ أمر متصور من بني آدم وهذا في حد ذاته ليس عيبا بدليل
قول النبي صلى الله عليه وسلم : " كل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون" ( رواه ابن ماجة ).
إنما يكمن العيب في الإصرار على الخطأ والتمادي في الباطل
ويعظم الخطأ أكثر حين يحاول صاحبه إيجاد المبررات ليوهم نفسه ومن حوله بأنه
لم يخطىء أصلا.
تعريف التبرير
إذا اعتبرنا أن التبرير بمعنى التسويغ فإننا نستطيع تحديد المقصود به ، فقد ذكر في القاموس المحيط:
"سوّغ أي أجاز لنفسه..".ويقول ابن منظور في "لسان العرب": "سوّغته: أي جوّزته".
ويُعرّف التبرير كمصطلح نفسي بأنه:
"العملية التي يختلق بها الإنسان المبررات لما يأتيه من سلوك
أو ما يراوده من أفكار وآراء، وذلك لكي تحل محل الأسباب الحقيقية".
فالتبرير عملية ستر للواقع وللحقيقة بستار تقبله النفس، وتستسيغه بدون أي
ردة فعل،أو تأنيب من ضمير .
سوء عاقبة التبرير
التبرير مرض عضال نهايته مؤسفة، ونتيجته مُـرَّة على صاحبه، فهو بمداومته على التبرير ينصرف عن إصلاح ذاته، كما ينصرف عن تفقد عيوب نفسه ، وبالتالي يرى أنه دائما على خير وإذا وصل العبد إلى هذا الحال صعب إصلاحه وفقد انسجامه الذاتي؛ لأنه في الواقع يعيش حالة من الحرب النفسية الداخلية هو فيها الجلاد والضحية.
إن صاحب هذا المرض يكون وبالا على نفسه وعلى الآخرين ، كما أنه يكون شديد الخصومة كثير الجدل وعندئذ يكون من أبغض الخلق إلى الله تعالى ؛ ففي الحديث :" أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ". (رواه البخاري).
القرآن يشنع عليهم
لقد وجد هذا الصنف من الناس في مختلف العصور،ولقد قص علينا القرآن شيئا من قصص بعضهم ، ومن ذلك قول الله عز وجل: ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين). (التوبة : 49).
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال محمد بن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجدّ بن قيس لما أراد الخروج إلى تبوك: "يا جدّ هل لك في جلاد بني الأصفر، تتخذ من سراري ووصفاء؟ فقال الجدّ: لقد علم قومي أني مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن أُفتن فلا تفتني، وائذن لي في القعود، وأعينك بمالي، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "قد أذنتُ لك".
فانظر إلى هذا الرجل الذي علم مشقة السفر إلى تبوك، وصعوبة مواجهة الروم والقتال معهم، أراد أن يبرر موقفه، ويحمي ذاته، فاصطنع سبباً وهمياً لذلك هو غرامه بالنساء، وخشيته أن يفتن عند رؤيتهن فيترك الصف المسلم لأنه لا يستطيع أن يصبر عنهن!.
ويعلّق شيخ الإسلام أحمد بن تيمية على هذه الواقعة: "لما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن مما يتعرّض به المرء للفتنة، صار من الناس من يتعلل لترك ما يجب عليه من ذلك بأن يطلب السلامة من الفتنة كما قال تعالى في المنافقين: ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين..) الآيات".
وكذلك اعتذر صنف آخر من الناس بأنهم لا ينفرون في الحر، لذلك قال تعالى عنهم: (وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون) (التوبة81).
يقول سيد قطب ـ يرحمه الله ـ في ذلك:
"فإما كفاح في سبيل الله فترة محدودة في حرّ الأرض وإما انطراح في جهنم لا يعلم أمده إلا الله".
هل يصيب التبرير المؤمنين؟
في الأمثلة السابقة بعض النماذج التي قد لا تكون من مجتمع الصفوة المسلم، لكن الواقع يقول: إن التبرير قد يطول حتى بعض المؤمنين الصادقين، يقول الله عز وجل: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا). (الكهف :54).ذكر بعض المفسرين في هذه الآية ما ورد في صحيح مسلم عن عليٍّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم طرقه ليلاً وفاطمة فقال: "ألا تصليان؟" فقال علي رضي الله عنه :قلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا"، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا). .
قال ابن عاشور: "يريد النبي أن الأولى بعلي أن يحمد، ويشكر إيقاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ليقوم من الليل، ويحرص على تكرار ذلك، وأن يُسرّ بما في كلام رسول الله من ملام، ولا يستبدل به ما يحبذ من نومه، فذلك محل تعجّب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلام عليّ ـ رضي الله عنه".
من أسباب الوقوع في التبرير
إن العقبة الرئيسة في التبرير هي عدم الصراحة مع النفس، ذلك أننا نفشل في أن نحدث أنفسنا عن واقعنا، وهذا يرجع إلى أننا تعلمنا منذ طفولتنا وصبانا أن نرتفع إلى مستويات أخلاقية، وصفات سامية، وعالية، لا يسهل علينا الوصول إليها غالباً.
"ولذلك نعمد إلى إخفاء حقيقتنا في إطار من الأكاذيب على النفس حددته أساليب تربيتنا الأولى".(قراءة في مشكلات الطفولة).
كما قد يكون التبرير راجعا إلى كِبْرٍ أصاب القلب يصعب معه الاعتذار أو الظهور بمظهر الضعف في ظن هذا المتكبر.
ومن أسبابه أيضا حب الدنيا والركون إليها ولعل هذا السبب تحديدا هو ما يحمل الكثيرين على ارتكاب ما نهى الله عنه مبررين ذلك بأسباب واهية ، فمن يأكل الربا يزعم أنه مضطر ولو نظرت في حاله لوجدته غالبا غير مضطر بل ربما غير محتاج أصلا ، وقس على ذلك كثيرا من المخالفات التي تقع في عصرنا ويحاول أصحابها تبريرها.
هل من علاج؟
لا شك أن الصدق مع النفس هو الطريق الواضح، والسبيل اليسير، حتى لا ندخل في متاهات التبرير، فمحاسبة النفس على التقصير والوقوف على خطئها يقيهـا كثيراً من مصارع السوء، ولا يجعلنا نراكم الأخطاء، والواقع أن الصدق مع الذات من أعلى مراتب الصدق، وأصعبها، وأرجو أن نتدبر قصة توبة الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه ، فإنما أنجاه الله بصدقه ؛ فإنه لما جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا رسول الله ! إني لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطته بعذر ، والله ما كان لي عذر).فقبل الله منه وعذره وتاب عليه ، أما من كذب وأتى بأسباب واهية لا حقيقة لها فقد فضحه الله.
كما أن من أهم وسائل العلاج مطالعة سير وأحوال من وقعوا في هذه الآفة ،وانظر إلى هؤلاء القوم من بني إسرائيل لما سيطرت عليهم العقلية التبريرية فاحتالوا على حكم الله تعالى واصطادوا يوم السبت مسخهم الله قردة وخنازير : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). (65) البقرة.
إنك حين تتدبر هذه العقوبة لمن كان متصفا بهذه الصفة
مجترئا على حدود الله تعالى لا شك ستراجع نفسك مرات ومرات قبل الإقدام على فعل تعلم سوء عاقبته.
نسأل الله تعالى أن يهدينا لأحسن الأخلاق وأن يصرف عنا سيئها إنه جواد كريم.