بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ غضّ الطرف عمّا يرى الإنسان من عيوب مبدأ أخلاقي، وأدب اجتماعي رفيع، ولو أنّ كلّ إنسان علم عيْبًا أو رأى خطأ في غيره نشره وأشاعه بين النّاس ما بقي إنسان سليمًا من قالة السُّوء. وفي النّاس طوائف لا هَمَّ لها إلاّ تصيُّد الأخطاء، بحقّ أو بغير حقّ، لنشرها بين النّاس من أجل تنقيص الغير وإشاعة الرَّيْب من حوله.
لقد توعَّد اللّه الّذين يُحبُّون أن تشيع قالة السُّوء في المؤمن بالعذاب الأليم، قال تعالى: {إنّ الّذين يُحبُّون أن تشيعَ الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذابٌ أليم}. والّذين يحرصون على فضح غيرهم وفقد الثِّقة فيهم يؤذون هذا الغير إيذاء منكرًا، يستحقّون عليه عذاب اللّه، قال تعالى: {والّذين يُؤْذُون المؤمنين والمؤمنات بغيْر ما اكْتَسَبُوا فقد احتَملوا بُهتانًا وإثْمًا مُبينًا}.
فلو فتَّش العيّابون لظهر أنّهم يقترفون من الآثام ما لا يُطاق ولا يسمح بذِكره، ولو كانت طواياهم سليمة ما تتبّعوا عورات النّاس وأخطاءهم. فالمسلم مطلوب منه أن يستر عيوب غيره، وله عند اللّه أجر عظيم. قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ''لا يستر عبدٌ عبدًا في الدّنيا إلا ستره اللّه يوم القيامة'' رواه مسلم، وفي رواية له: ''ومَن ستر مسلمًا ستره اللّه في الدّنيا والآخرة''.
قال الإمام النووي في شرح مسلم عند هذا الحديث: ''وأمّا الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات (أهل الفضل) ونحوهم، ممّن ليس معروفًا بالأذى والفساد، وأمّا المعروف بذلك يستحبّ أن لا يُستَر عليه، بل ترفع قضيته إلى وليّ الأمر، إن لم يخف من ذلك مَفسدة''. وهذا كلّه في ستر معصية وقعت وانقضت، أمّا معصية رآه عليها وهو بعد متلبّس فتجب المبادرة بإنكارها، ولا يحلّ تأخيرها، فإن عجز لزمه رفعها إلى وليّ الأمر.
وقد ذَكر أهل العلم أنّه لا ينبغي لأحد أن يتجسّس على أحد من المسلمين، فإن اطّلع منه على ريبة (ذنب) وجب أن يسترها، ويعظه مع ذلك ويخوّفه بالله تعالى. فقد أخرج أبو داود والنسائي عن ذخير أبي الهيثم كاتب عقبة بن عامر رضي اللّه عنه قال: قلت لعقبة بن عامر: إنّ لنا جيرانًا يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرَط (الشرطة) ليأخذوهم قال: لا تفعل وعِظهُم، قال: إنّي نهيتهم فلم ينتهوا، وأنا داع لهم الشرَط ليأخذوهم، قال: ويحك لا تفعل، فإنّي سمعتُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: ''مَن ستر عورة كان كمَن أحيا موءودة''.
وأخرج الحارث بن الشعبي أنّ رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فقال: إنّ لي ابنة كنتُ وأدتها في الجاهلية فاستخرجناها قبل أن تموت، فأدركت معنا الإسلام فأسلمت، فلمّا أسلمت أصابها حدّ من حدود اللّه، فأخذت الشّفرة لتذبَح نفسها، فأدركناها وقد قطعت بعض أوداجها فداويناها حتّى برئت، ثمّ أقبلت بتوبة حسنة، وهي تخطب إلى قوم، فأخبرتهم من شأنها بالّذي كان، فقال عمر: أتعمد إلى ما ستَر اللّه فتُبديه، واللّه لئن أخبرت بشأنها أحدًا من النّاس لأجعلنك نكالاً (عِبرة) لأهل الأمصار، بل أنكحها نكاح العفيفة المسلمة''.
وستر المسلم واجب في حالات مثل حالة الزنا الّتي لم يتم فيها عدد الشهود أربعًا، وحالة ما إذا كان الذنب يخصّ المذنب لا يتعدّاه إلى غيره، ونشره يعتبر فضيحة وخزيًا، وحالة ما إذا كان النشر يؤدّي إلى فساد أكبر، أو إلى فتنة بين النّاس، وفي حالة ما إذا كان سببًا في فقد الثقة في إنسان ينتفع النّاس بالثقة فيه، وفي حالة ما إذا كان المذنب سائلاً يبحث عن حكم الشّرع في ذنبه وكيف يتوب منه.. إلخ.
كما يجب على المسلم، إذا أذنب ذنبًا، أن يستر ذنبه ولا يستعلن به، ولا يحدث به النّاس، إلاّ إذا كان مستفتيًا أو طالبًا إقامة الحدّ على نفسه فيعترف بذلك للحاكم، لأنّ الجهر بالمعصية معصية، حيث إنّ الجهر بها يشجّع الآخرين على الوقوع فيها، روى البخاري ومسلم عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ''كلّ أمّتي مُعافَى إلاّ المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يعمَل الرجل باللّيل عملاً، ثمّ يصبَح وقد ستره اللّه، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربّه ويصبح يكشف ستر اللّه عنه''.
قال الإمام النووي: إنّ مَن جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكرُه بما جاهر به لأنّه كشف نفسه، وقال ابن بَطّال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحقّ اللّه وحقّ رسوله وحقّ صالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العِناد لهم، وفي الستر بها السّلامة من الاستخفاف لأنّ المعاصي تذلّ أهلها. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: ورحمتُه عزّ وجلّ سبقت غضبه، ولذلك إذا ستره في الدّنيا لم يفضحه في الآخرة، والّذي يُجــاهر به يفوته جميع ذلك.