تفتح وعي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أقرب الناس إليه،
فهو الأخ الشقيق لأبيه عبد الله، وهو الذي كفله بعد وفاة جده عبد المطلب،
فحلّت الأبوة محل العمومة،
حتى صار النبي –صلى الله عليه وسلم- يُدعى يتيم أبي طالب.
وكان الحب متبادلاً بينهما؛ فكان أبو طالب من شدة تعلّقه به إذا سافر سافر به معه،
حتى إنه عندما سافر لتجارته في الشام أخذه معه وهو في التاسعة من عمره، وهي سنٌّ لا تؤهل للتجارة ولا لأعباء الطريق الشاقة،
ولكنه تعلُّق أبي طالب بابنه، ابن أخيه،
وتعلق النبي –صلى الله عليه وسلم- بعمه صنو أبيه، وعَبَر النبي –صلى الله عليه وسلم- مراحل عمره المبارك الميمون وأبو طالب أقرب ذوي قرباه،
حتى إذا تحمّل أعباء الرسالة وواجه تبعات البلاغ كان من أبي طالب ما عُرف واشتهر من نصرته وحمايته والذبّ عنه،
ثم تحمّل المنابذة من قريش والحصار والتضييق من غير أن تلين له قناة أو تضعف عزيمة، وكان حاسمًا في الحماية مستبسلاً في النصرة.
كَذَبتُم وَبَيتِ اللَهِ نُبزى مُحَمَّداً *** وَلَمّا نُطاعِن دونَهُ وَنُناضِلِ
وَنُسلِمهُ حَتّى نُصَرَّعَ حَولَهُ *** وَنذهلَ عَن أَبنائِنا وَالحَلائِلِ
ومرّت عشر سنوات من عمر الرسالة، وخمسون سنة من العمر المحمدي وخمس وثمانون سنة من عمر أبي طالب، وإذا أبو طالب يرقدُ على سرير الموت، فيحضره رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وعند أبي طالب أخواله من بني مخزوم، أبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، والمسيب بن حزن، ويسارع النبي –صلى الله عليه وسلم- اللحظات الأخيرة من حياة أبي طالب يناشده الكلمة التي طالما عرضها عليه وتطلبها منه، يقول له: بشفقة الولد للوالد: "يا عم، إنك أعظم الناس عليّ حقًا، وأحسنهم عندي يدًا، فقل كلمة تحلّ لي بها الشفاعة فيك يوم القيامة، يا عم، قل لا إله إلا الله. كلمة أحاجّ لك بها عند الله"، ولكن أبا جهل يسارع إلى تطويق أبي طالب بحصار عاطفي يشده إلى دين أبيه قائلاً: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ويسابق النبي –صلى الله عليه وسلم- أنفاس أبي طالب مكرّرًا ذات الطلب من غير أن ينشغل بالرد على أبي جهل أو مناقشته مقبلاً على عمه: "يا عم، قل لا إله إلا الله. كلمة أشهد لك بها عند الله".
ويعيد أبو جهل ذات النداء والتذكير بدين عبد المطلب. ويكرر النبي –صلى الله عليه وسلم- ما بدأ، ويناشد عمه في هذه اللحظة الحرجة كأشد ما تكون المناشدة، ويحس أبو طالب صدق اللهجة وحرارة العاطفة في نداء ابن أخيه. فيُقبل عليه قائلاً: يابن أخي، لولا أن تعيّرني قريش، يقولون ما حمله على ذلك إلاّ جزع الموت لأقررت بها عينك.
ثم كان آخر ما تكلّم به قبل أن تفرط آخر أنفاسه: أنا على ملة الأشياخ. أنا على ملّة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، ومات أبو طالب. وغادر النبي –صلى الله عليه وسلم- حزينًا أسفًا أن عمه الذي أحبه ونصره لم ينعم بالهداية التي بُعث بها ودعا إليها. وقال وكأنه لا يزال يخاطب عمه وكأن عمه لا يزال يسمعه: "لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك". فأنزل الله (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ).[التوبة: 113]. وأنزل سلوة ومواساة لنبيه –صلى الله عليه وسلم- (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص: 56].
وبقيت في نفس النبي –صلى الله عليه وسلم- حسرةٌ على عمه يعرفها منه أصحابه.
وبعد نحو عشر سنين يدخل النبي –صلى الله عليه وسلم- مكة فاتحًا، ويأتيه أهل مكة يبايعونه على الإسلام، ويأتي أبو بكر بأبيه أبي قحافة ليبايع النبي –صلى الله عليه وسلم- فيمدّ الشيخ إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- يدًا معروقة ناحلة، فيستعبر أبو بكر باكيًا، وهو يرى يد أبيه في يد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويعجب الرسول –صلى الله عليه وسلم- لبكاء صاحبه فيسأله: "ما لك يا أبا بكر؟" فيقول: يا رسول الله، لأن تكون يد عمك مكان يده ويسلم ويقرّ الله عينك أحب إليّ من أن يكون أبي، والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحًا بإسلام أبي طالب مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك. ونحن اليوم تعتلج قلوبنا أسى ولوعة، ونتمنى أن أبا طالب شهد ذلك اليوم، ورأى ابن أخيه يدخل مكة فاتحًا، ورأى الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، وأن عين النبي –صلى الله عليه وسلم- قرّت بإسلامه، (ولكن الله يهدي من يشاء).
لقد تساءلت في نفسي كثيرًا:
من أولى الناس -بالنظر العقلي المجرد- أن يكون أول البشرية إسلامًا وتصديقًا بالنبي –صلى الله عليه وسلم- فكان الجواب المتبادَر: ذاك أبو طالب.. فهو أعلم الناس –برسول الله صلى الله عليه وسلم-، عرف النبي -صلى الله عليه وسلم- في طفولته وفتوّته ويفاعه وشبابه ورجولته وكهولته، وعرف خلال ذلك خصاله كلها: صدقه وأمانته، وطهره ونقاءه، وعرف أحواله كلها: مدخله ومخرجه ومذهبه ومأتاه. وقال عنه مفاخرًا:
لقد علموا أنّ ابنَنا لا مكذّبَ *** لدينا ولا يُعنى بقولِ البواطلِ
ومع ذلك لم تُجدِ فيه دعوة النبي –صلى الله عليه وسلم- المتواصلة طيلة عشر سنوات، ومات والرسول –صلى الله عليه وسلم- عند رأسه يناشده كلمة التوحيد فلم يقلها، ولو قالها لقرّت بها عينه، وعين رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وعين كل مسلم.
إن ذلك كله آية باهرة تدل على أن الهداية منحة إلهية ينعم الله بها على من يشاء، والله بحكمته أعلم بمواضع هدايته، ولذلك أسلم أناسٌ بين يدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لم يعرفوه إلاّ في ذلك المجلس.
إن تصوّر هذا المعنى يجعل المسلم يستشعر عظيم فضل الله عليه يوم هداه وقد ضلّ من خلقه كثير، وهذا ما يجعلنا نلفظ على الله في كل ركعة من كل صلاة (اهدنا الصراط المستقيم)، وأنه لو كانت الهداية بالعلم وحده لكان أبو طالب أولى الناس بها؛ لأنه أعلمهم برسول الله –صلى الله عليه وسلم-. (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). [القصص: من الآية56].
تقف معجبًا أمام هذه السكينة النفسية والرفق المحمدي في هذه الساعة الحرجة من حياة عمه أبي طالب، وهو يعرض عليه الهداية ثم يتعرض لهذا الاستفزاز الشديد من أبي جهل الذي يدخل مشاغبًا عليه دعوته ومعاكسًا مقصده، ومع ذلك لم ينشغل النبي –صلى الله عليه وسلم- معه بلجاجة، ولم يُنقل أنه ردّ عليه بكلمة، وربما كان ذلك مقصدًا لأبي جهل ليشاغل النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صمد إلى هدفه، وألحّ على طلبه بذات الرفق حتى نفذ قضاء الله وقدره، ثم استمرت سكينة النبي -صلى الله عليه وسلم- برغم الأسف والحزن الممضّ، ولم يعقّب على ذلك إلاّ بقوله: "لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك"، ولم يرجع إلى أبي جهل قولاً، ولم يجعله له شغلاً.
إن هذه السكينة المحمدية في هذا الموقف الاستفزازي الحرج درس بليغ في عدم إهدار الوقت والجهد فيما لا يجدي، وعدم الاستدراج في مشاغلات جانبية تقطع عن المقصد الأعظم.
كما هي مشهد من مشاهد العظمة الأخلاقية المحمدية (وإنك لعلى خلق عظيم).