*
*
* * *
* *
*
:: الفصل الثامن ::
وبعد أيام .. بدأ التحقيق في حادث مصرع المرأة الغريبة بعد أن قام البوليس
بتحرياته ، لتحقيق شخصيتها ، وعرف أنها تدعى " واندا بولونكا " من اللاجئين
البولنديين وكانت مسز سبروت قد نقلت بالسيارة إلى سان سوسي بعد وقوع
الحادث محطمة الاعصاب وقد تعاون الجميع على الترفيه عنها.. بمختلف الوسائل،
واتصل الكوماندوز هايدوك بالبوليس وأرشدهم إلى حيث وقعت المأساة ولولا
اهتمام الصحف بالأخبار الحربية لاحتل هذا الحادث أبرز مكان فيها ..
واتخذ التحقيق مجراه العادي فاستدعيت السيدة كالفنت المشرفة على شؤون
اللاجئين في تلك المقاطعة فأدلت معلوماتها عن واند بولونكا وتتلخص في انها
كانت من عائلة بولونية ، قتل النازيون كل أقاربها و انها كانت شبه مخبولة
وان سلوكها كان موضع شبهة فقد وجد معها مل كثير بالنسبة الى من هم في
مركزها، وقد ظهر من مراقبتها انها ليست ممن يضمرون الخير لبريطانيا..
أما مسز سبروت فقد غرقت في دموعها عندما استدعيت للتحقيق وكان المحقق رفيقا بها وقد فسرت ما حدث انه كان بلا وعي منها ..
وسألها المحقق عما اذا ما كانت قد اعتادت استعمال الاسلحة النارية، فأجابت بالنفي ثم نفت معرفتها بالمرأة القتيل قبل الحادث ..
أما هايدوك فقد أدلى بكل ما قام به في عملية المطاردة ولما سأله المحقق عما
اذا كان متأكدا من أن المرأة قد بدا عليها النزوع للقفز الى الهاوية أجاب:
- اما انها كانت تنوي ذلك أو على الاقل ان ترمي بالطفلة فذلك ما اعتقده وقد
خيل الي ان الحقد متجسم في نظراتها.. وقد فكرت شخصيا في اطلاق النار عليها
ولكنها كانت قد اتخذت من الطفلة درعا.. وقد تحملت مسز سبروت المسؤولية
فأنقذت الطفلة..
وأخذت مسز سبروت تتشنج من جديد..
أما شهادة مسز بلنكنسوب فكانت قصيرة ولم تخرج عما أدلى به الكوماندوز..
و تلا ذلك مستر ميدوز وقد أمن على الاقوال السابقة وبعد انهاء التحقيق
اعتبر المحقق أن الحادث تم تحت تأثير ظروف قاهرة لا حيلة للفاعلة فيها وأن
القتل وقع فعلا ولكن دون سبق اصرار او ترصد أو حتى تفكير فيه وهكذا اعتبرت
مسز سبروت غير متحملة مسئولية ما فعلت ..
وفي اليوم التالي تقابل مستر ميدوز ومسز بلنكنسوب ودار بينهما حديث طويل عن تلك القضية الغريبة التي فاجأتهما ، وقال تومي :
- ان مجرى الحوادث من كل ناحية لا يعجبني مطلقا..
وقد وافقته توبنس .. فقد كان الجيش الفرنسي يتراجع بدون توقف ، وكان الجلاء
عن " دنكرك " على أشده، كما كان سقوط باريس متوقعا في أية لحظة..
وقال تومي :
- وماذا عن كارل فون دينيم والمرأة البولندية ؟ هل تعتقدين انها كان يعملان سويا ؟
- لابد انهما كانا مرتبطين بطريق ما.. ولا تنس انني رأيتهما يتحدثان..
- اذن لا بد أن يكون كارل هو الذي دبر الاختطاف ..
- لماذا يختطفون هذه الطفلة بالذات ؟ ومن هم .. آل سبروت .. لا أعتقد أنهم
من الاغنياء.. ثم أنهم عديمو الاتصالات الحكومية التي قد ينتفع بها العدو
مثلا,,
- اني افهم ذلك يا تومي .. وبودي لو كشفت السر ..
- وهل لدى مسز سبرون أية فكرة عن سبب الاختطاف ؟
- ان تلك المرأة .. أعني مسز سبروت .. ليست لها مقدرة على التفكير وكل ما تقوله .. ان هذا هو ما يفعله الألمان بأعدائهم ..
- تلك الغبية .. انها لا تعلم أن الألمان قوم في غاية الذكاء فهم لا
يختطفون فأرا الا اذا كان هناك من الاسباب القوية ما يدعو الى اختطافه ..
فقالت توبنس :
- أعتقد أن مسز سبروت تستطيع أن تدرك السب لو انها فكرت وحاولت معرفته..
فلا بد أن يكون هناك سبب.. نعم .. لا بد أن تكون هناك معلومات ما .. تعرفها
هي ، دون أن تعلم أن هذه المعلومات هي السبب ..
- هل حاولت ان تقنعي مسز سبروت أن تعمل على تحريك ذهنها بعض الشيء .
- نعم حاولت .. ولكن دون جذوى .. ان ما يهمها ,, أن بتي عادت اليها ثم لا
تنس احساسها بأنها قد أصبحت قاتلة في نظر نفسها على الاقل..
- ان النساء مخلوقات عجيبة .. في لحظة خيل الي ان مسز سبروت تستطيع قتل
فرقة كاملة لاستعادة طفلتها .. و الان أراها تموت فزعا لمجرد ذكر القصة..
- لقد التمس لها المحقق العذر .. كان هذا طبيعيا,,
- اعتقد أن عدم ادراك قيمة ونتائج استعمال المسدس هو الذي دفعها الى تحريك
زناده.. فلو انها كانت فكرت في العواقب المحتملة لما اقدمت على اطلاقه..
- اذكر ان شيئا كهذا ورد في التوراة عن سيدنا داوود و جوليات الفلسطيني ...
- أوه .. لقد طافت بذهني فكرة مماثلة . ثم عدت فنسيتها في الحال ..
- هل كانت عن المقلاع الذي قذف به داوود ذلك الفلسطيني فأرداه قتيلا ؟
- لا .. لا .. انتظري لحظة .. انه كان .. عن .. سليمان الحكيم..
- عن معابد سليمان وكنوزه .. والحريم ..
- كفى .. كفى .. انك تعصب الامور .. ما علينا .. كم أود أن أذكر بماذا كان
وجه واندا يذكرني .. فقد أحسست عندما رأيتها لأول مرة أن وجهها ليس غريبا
علي ..
- هل تعتقدين أنك رأيتها في مكان ما قبل الان ؟
- كلا .. فأنا متأكدة أنني لم أرها من قبل .. ولكني ..
- ان شيلا برينا وأمها يختلفان في منظرهما عن واندا تمام الاختلاف ..
- نعم .. ومع ذلك يا تومي .. فاني أظن أن ثمة علاقة بين ذلك الانذار وآل برينا .. ويخيل إلي ان واحدة منهما هي التي وضعته ..
- اذن تعتقدين أن آل برينا و كارل و واندا بولونكا شركاء؟
- نعم .. ألا تذكر اللحظة التي تدخلت فيها مسز برينا ؟ ثم ألا تذكر أيضا
أنها كانت في صف من عارض في تبليغ البوليس .. وأنها ملكت زمام الموقف كله ؟
- وهكذا .. ألا تزالين تعتبرينها ( م ) ؟
- بلى .. ألست من رأيي؟
- ربما ..
- لماذا يا تومي .. هل لديك فكرة أخرى ؟ ألا تحدثني عنها؟
- أفضل ألا أحدثك عنها في الوقت الحاضر على الاقل فان تخميناتي ما زالت غير
مركزة .. بل على العكس ، أعتقد أننا أمسكنا بطرف الخيط الذي يؤدي الى ( ن )
وليس الى ( م ) كما تعتقدين . .ولهذا أفضل أن يعمل كل منا – ولو بتخميناته
– منفردا..
وكان تومي يفكر في نفسه.. ان بلتشلي شخصية لا غبار عليها .. ثم انه كان
متحمسا لتبليغ البوليس .. ولكنه في نفس الوقت كان واثقا من ان ام الطفلة لن
تقبل .. وعلمه بوجود الانذار وفهمه لعقلية الام جعلاه على ثقة من النتائج ،
ومع ذلك .. فان العكس جائز وعلى أية حال .. وعاد تومي يسأل نفسه من جديد
,, لماذا تختطف بتي سبروت ؟!
وعندما انصرفت توبنس متجهة إلى غرفتها لم تلحظ وقوف سيارة البوليس باب سان
سوسي .. فقد كانت غارقة في تأملاتها حتى وصلت إلى باب غرفتها ولكنها تنبهت
بعد أن خطت الخطوة الأولى وصاحت :
- شيلا !
واستدارت الفتاة وواجهت توبنس .. كان الذعر والأسى مرتسمين على وجهها فقالت :
- كنت أنتظرك يا مسز بلنكنسوب ، واني سعيدة اذ حضرت ..
- ما الخبر؟
- لقد قبضوا على كارل ..
- من ؟ البوليس ؟
لقد رثت توبنس لحال الفتاة ,, انها مغرمة بكارل فون دينيم وحتى لو كان
كلاهما في نظرها على الاقل متهما بالخيانة الوطنية، فان تقدير عاطفة الحب
من وجهة النظر الانسانية أمر لا تستطيع توبنس الا ان تحس به ولا تغفله ..
وعادت شيلا تقول :
- ماذا أفعل ؟
وارتجفت توبنس لبساطة السؤال .. فلم تجد ما تقول سوى أن غمغمت :
- أواه يا عزيزتي ..
- لقد أخذوه .. وهكذا لن أراه ثانية .. ماذا أفعل؟ نعم ما أفعل ؟ ...
وانفجرت تبكي بحرارة من كل قلبها ثم تهاوت على الفراش.. فجلست توبنس الى جوارها تمسح على رأسها وقالت :
- ربما لا يجدون شيئا ضده فلا تجزعي .. وكل ما في الامر انهم سيعتقلونه ولا تنسي أنهم سيعتقلون كل رعايا الأعداء..
- لم يكن هذا ما قالون.. انهم يفتشون غرفته الان ..
- لا شك أنهم لن يجدو فيها ما يؤذيه .. أليس كذلك ؟
- لن يهم البوليس ان يكون بريئا او مذنبا .. انهم سيلصقون به التهمة..
- هذا خطأ.. بل مستحيل .. انك تثقين في الناس يا شيلا,, وتطمئنين الى
كلامهم أكثر من اللازم .. ولعل هذا هو موقفك حيال كارل.. ولعلك كنت على
خطأ..
- اذن أنت أيضا ضده .. أواه .. فقد ظننتك تميلين إليه بعض الشيء..
- استمعي الي يا شيلا .. ان الميل أو عدمه ليس لهما دخل في الوقائع
المادية، فهذه البلاد وألمانيا في حالة حرب .. وهناك وسائل عديدة يخدم بها
المرء وطنه .. منها أن يحصل مثلا على معلومات يرسلها الى وطنه من خلف
الخطوط.. وهو عمل فيه كثير من الشجاعة وإنكار الذات ولكن القانون الدولي لا
يعترف به..
- هل تظنين أن كارل؟
- ربما .. ربما كان يخدم وطنه عن هذا الطريق .. ان هذا محتمل .. ربما كان
عمله أن يأتي الى هذه البلاد كلاجئ ، وأن يتظاهر بعدائه الشديد للنازية
وهكذا يستطيع أن يحصل على ما يريد من معلومات..
- هذا لا ينطبق على الواقع .. فاني اعرف كارل جيدا.. وقد عرفت قلبه كما
عرفت عقله الذي لا يفكر الا في العلم وفي عمله وهو يحس انه مدين لانجلترا
لأنها آوته ومنحته الفرصة ليعمل فيها ولو انه أحيانا – عندما يهان – يحس
بألمانيته.. ويتألم .. ولكنه يكره النازيين وما يدعون إليه وبخاصة انكارهم
لحرية الفرد .,.
- هذا ما يقوله من كان في مثل مركزه..
- اذن أنت تعتقدين أنه جاسوس؟
- هذا ما أظنه .. انه مجرد احتمال ..
- اذن يؤسفني أنني لجأت إليك لمساعدته ,,
وخرجت الفتاة بعد أن صفقت الباب خلفها ,,
* * *
رفع الرجل المسن سنارته من الماء ثم أرتكز على دفة القارب وقال:
- لا شك في ذلك.. واني أخشى أن يكون ..
فأجاب تومي :
- نعم، ويؤسفني ما حدث فانه شاب لا بأس به ..
- انهم لا يختارون سوى أمثاله من الشباب الشجعان لمثل هذه المهمات .. ومع
كل فقد وجدوا ورقة كتب فيها بالمعادلات الكيميائية أسماء العمال الذين
يشتغلون تحت أمرته في المصنع والذين يمكن التأثير عليهم .. كما عثروا على
مذكرات عن مشروع كيميائي مريع لتسميم الاغذية ، أعده السيد كارل..
- ألا يمكن أن تكون هذه الاوراق قد دست عليه .. ؟
- أوه .. هذا افتراض زوجتك بلا شك .. لها الحق في ذلك .. فهو فتى في ريعان
الشباب .. ولكني شخصيا لا أعتقد في براءته .. فذلك الحبر السري الذي وجدناه
في المعمل مخبأ بحذق ومهارة وتلك المادة السامة التي صبها على هيئة أزرار
وكان يذيبها في الماء ثم يبلل به أربطة الأحذية .. تلك الأربطة التي وجدنا
مئات منها معلقة في حجرته لتجفيفها ، ان هذه أدلة بالتقبل الشك ..
وعندما عاد تومي ليقص على توبنس خلاصة هذا الحديث صاحت :
- أربطة أحذية .. ماذا تقول ! ان هذا يفسر كل شيء ..
- ماذا ؟
- بتي أيها الغبي ,, ألا تذكر ماذا كانت تعمل في غرفتي ! عندما حلت أربطة
حذائي وبللتها في كوب اللبن .. ظننت ذلك حينئذ عبث أطفال.. ولكنها لابد رأت
كارل يفعل ذلك فقلدته .. ولعله خشي أن تقول الطفلة شيئا عما رأته فاتفق مع
تلك المرأة على اختطاف بتي ..
- وهكذا اتضح كل شيء ..
- نعم .. وكم أود أن تنكشف لنا بقية الأمور .. فالأحوال الحربية العامة في
غاية الخطورة .. وكل سواحل فرنسا أصبحت في أيدي العدو وأصبح الغزو قريب
الحدوث ..
- وكان كارل حلقة ا لسلسلة ولعل مسز برينا هي الرأس المدبرة ..
- نعم .. ولكنا لم نجد ما يدينها ..
- وهي ليست من الغباء بحيث ترمي بنفسها بين أيدينا ..
- على ذلك يمكن اعتبارها ( م ) ..
فهز تومي رأسه موافقا وقال :
- اذن فعلينا أن نتابع مراقبتها وعليك الاتصال بألبرت ..
- اتصل أنت به .. اذ سأذهب للعب الجولف ..
:: الفصل التاسع ::
- يخيل الي ان الايام الماضية قد عادت من جديد يا سيدتي ..
- أرجو ذلك يا ألبرت . وكيف حال زوجتك ؟
- انها بخير كما تعلمين عند أقاربها في ويلز ..
- عسى ألا يكون.. اشتراكك معنا في العمل يعطل أعمالك الخاصة ؟
- بالعكس يا سيدتي، فكم كنت أود العودة معكما من جديد .. ولكن الظروف لم
تسمح من ناحيتكما.. وقد حاولت في ادارة المباحث وفي ادارة الامن الام
فاحتجوا بكبر سني .. وقالوا لي انتظر فقد نحتاج اليك ..
- ان منطقهم غريب.. وقد قاسينا منه يا ألبرت..
- أعتقد أن هذه فرصتنا للعمل صد هؤلاء الالمان الملعونين وأرجو أن تعذريني على هذا الوصف يا سيدتي ..
- حسن يا ألبرت.. و الان افهمك ما اريد أن تقوم به ..
كانت كرة الجولف تجري في طريقها وسط الملعب عندما سأل تومي الكوماندوز هايدوك :
- منذ متى تعرفت على بلتشلي يا هايدوك ؟
- بلتشلي؟ دعني أتذكر .. أوه .. منذ حوالي تسعة شهور .. وأذكر أنه أتى إلى هذه المنطقة في الخريف الماضي..
- قلت انه صديق لأحد أصدقائك ؟
- هل قلت أنا ذلك ؟ لا أظن .. وأذكر أنني قابلته هنا .. في النادي ...
- انه شخص محوط بالأسرار على ما أرى ..!
- أسرار.. ! بلتشلي العجوز ..! هذا أغرب وصف للرجل .. لو قلت انه رجل عسكري
التفكير أو محدوده أو ما شابه ذلك لكنت أوافقك ، ولكن وصفك هذا له ..
- لعلي وصفته هذا الوصف نتيجة لما سمعته عنه من بعضهم ..
- ماذا تعني ؟
- لا شيء .. انه مجرد حديث عابر سمعته ..
- كل ما علمته عنه انه كان في فرقة الهوازر ..
- هل أنت واثق؟
- أنا؟ لا . لست متأكدا .. ولكن حدثني يا ميدوز .. هل علمت عنه أمرا ؟
- لا .. أبدا .. فقط ..
- أكاد أدرك ما تعني .. تقصد ان احدا لا يعلم شيئا عن ماضيه .. وأنه منذ
نزل بهذه المنطقة لم يتصل به مخلوق.. ولم يتصل هو – فيما أعلم – بأحد ..
- آه .. هل ترى أن نواصل اللعب؟
واتخذ كل منهما موقفه الجديد في ساحة اللعب ، وبعد جولة عاد هايدوك يسأل :
- ماذا سمعت عنه ؟
- لا شيء ..
- لا حاجة بك الى كل هذا التحفظ معي يا ميدوز .. لقد تعودت الاستماع الى
مختلف الاشاعات واني أكاد أخمن المسألة .. هل يخفي بلتشلي حقيقته ويظهر لنا
بغيرها ؟
- هذا مجرد فرض ..
- ماذا يفترضون ؟ انه جرماني ؟ ان ذلك مستحيل ..
- آه ، طبعا .. هذه الناحية لا غبار عليها ..
- ثم لا تنس كيف كان متحمسا للقبض على ذلك الفتى الألماني وكيف صرح عدة
مرات بوجوب شنقه.. وبعمري لقد كنت أوافقه على رأيه كل الموافقة فقد سمعت أن
ذلك الفتى أعد مشروعا لتسميم مياه الشرب في المنطقة .. ذلك ا لود الذي كان
يعيش بيننا نكرمه ونحسن استقباله ..
وأسف تومي كل الاسف على الفرصة التي ضاعت منه والتي كان قد أعدها لاستدراج
الكوماندوز الى هذا الحديث .. فقد انضم اليهما في تلك اللحظة بعض أعضاء
النادي وعرضوا عليهما الذهاب الى الناي لتناول المشروبات .. وبعد أن جلسوا
جميعا بعض الوقت قال هايدوك بعد أن نظر الى ساعته :
- أرجو قبول عذرنا يا سادة . فنحن – ميدوز وأنا – على موعد ..
وأتى تومي على قوله فخرجا ، ووافق تومي أن يتناول عشاءه مع الكوماندوز في
استراحة المهربين وقام بخدمتهما خلال تناول العام ساق في منتصف العمر ..
كان يؤدي واجبه كما لو كان في أعظم مطاعم لندن .. وانتهز تومي فرصة خروجه
من الحجرة وأبدى اعجابه به، فقال الكوماندوز..
- أجل انني سعيد الحظ اذ عثرت على "آبل دور" ..
- وكيف عثرت عليه؟
- أعلنت عن حاجتي لساق متمرن.. وكان أول من أجاب الاعلان وقد لي شهادات مترفة من مخدوميه السابقين..
وعندما بدأا يحتسيان القهوة .. قال تومي :
- ماذا كنت تقول عندما كنا نتحدث عن بلتشلي؟
- ماذا كنت اقول؟ أترى.. أترى هذه الاضواء التي تلوح في البحر .. أين منظاري ؟ اني اعتقد ان هذه بوادر الغزو ..
وبدأ تومي يتتبع الأضواء .. واستطرد هايدوك يقول :
- ها هم أولاء يسيرون من نصر الى نصر .. ونحن ماذا نفعل.. نحتسي الويسكي ونتحدث عن السقاة ..
وكان آبل دور قد دخل ومعه زجاجة ويسكي وبعض الكؤوس .. وراح تومي يراقب
الرجل وهو يملأ كأسه.. وقال في نفسه.. كان يجدر أن يسمى هذا الساقي "
فريتز" لا "آبل دور" ان هيئته وتقاطيعه أقرب الى الهيئة الالمانية من أي
هيئة أخرى .. أما طريقة نطقه باللغة الانجليزية فلا شك انه تعلمها من طول
اقامته في البلاد .. وأخذ يمعن في التأمل .. ترى أين رأى هذا الرأس! وهذا
الوجه قبل الان وكان الكوماندوز يقول :
- نعم اننا نتحدث في موضوعات تافهة .. ومن وقت الى اخر يطلبون منا ملء تلك
الاوراق السخيفة .. التي تختص بعضها بتحقيق الشخصية والبعض الاخر بالتموين
وبعضها ..
- تلك الاوراق التي يسألونا فيها عن عمرنا ثم عن اسمنا .. ويقول لك الموظف المختص في شراسة :
- انطق .. ما اسمك .. تكلم .. ( ن ) أو ( م ) ...
وقفزت زجاجة الويسكي من يد الساقي الممتاز .. وانتثرت محتوياتها على قميص تومي ثم سقطت على الارض وارتجف الساقي واخذ يقول متلعثما :
- آسف ..سيدي .. آسف ..
وانفجر غضب هايدوك وصاح :
- ما هذا الذي فعلت أيها الغبي المخبول .. ماذا تظن أنك تفعل أيها الخنزير
.. واستمر آبل دور في اعتذاراته المتكررة وهو يجمع الادوات المبعثرة وتأثر
تومي لحاله.. وفجأة عادت الرقة الى الكوماندوز فقال تومي :
- تعال لتغسل يديك ..
وقام الرجلان الى الحمام ذي الاجهزة العصرية..
ودخل تومي الحمام ليغسل يديه بينما وقف الكوماندوز في غرفة النوم المجاورة يقول :
- لعلي أغلظت القول يا تومي للساقي.. ولكن اعذرني .. فقد ضايقني ما حدث ..
وغسل تومي يديه ثم وقف يجففهما ولم يلحظ ان قطعة من الصابون انزلقت على أرض
الحمام الملساء .. فلما استدار ليخرج عثرت رجله بها .. فانفرجت رجلاه كما
لو كان أحد راقصي الباليه واصطدمت احدى يديه بصنبور الماء واصطدمت الاخرى
باب اخر في الحمام .. وانزلقت رجله حتى صدمت المغطس وفي طرقة عين اختفى
وانكشف الحائط عن مخبأ غريب به جهاز لاسلكي ضخم ...
وفي تلك اللحظة نفسها .. توقف صوت الكوماندوز عن الحديث وظهر واقفا بباب الحمام ..
وفي نفس اللحظة أيضا لمعت أضواء في ذهن تومي .. وضعت كثيرا من الامور في نصابها ..
هل كان أعمى حتى تلك للحظة.. ان ذلك الوجه الانجليزي العادي لم يكن سوى
قناع .. لماذا لم يحس ان هذا القناع يخفي وراءه صفات الضابط البروسي
الفظ..! ذلك الذي لا يغتفر خطيئة لأحد مرءوسيه.. لقد تجلى ذلك عندما انسكب
الشراب من يد الساقي المرتعشة .. ذلك الساقي الغبي الذي لم يحتمل صدمة ذلك
السؤال..
وهكذا تتالت الاستنتاجات في رأس تومي وتداعت المعاني ..
أرسل العدو رسوله الاول "هاهن" فأعد المكان.. واستخدم عمالا اجانب دوم ان
يهتم بلفت الانظار اليه حتى يتم العمل.. فيتدخل رجل من كبار رجال البحرية
الانجليزية المتقاعدين لا ترقى اليه الشبهات هو الكوماندوز هايدوك.. ويكشف
عن سر هذا الرجل.. ومن الطبيعي جدا أن يتقدم لشراء المكان، ويدور يتحدث عن
القصة حتى يضايق بها من يستمع اليها .. وهكذا استقر ( ن ) في مركزه المعد
له في مكان على ساحل البلاد وتحت امرته كل الوسائل الميسرة للاتصال بالخارج
عن طريق الاجهزة التي أخفيت بمهارة وحذق.. أو عن طريق أركان حربه المنبثين
في كل مكان داخل البلاد ، وبخاصة في سان سوسي مركز قيادته..
ولم يستطع تومي ان يخفي اعجابه باحكام الخطة اذ لم يتطرق اليه أي شك في
الرجل .. ولولا تلك الحادثة غير المتوقعة، ما انكشفت الامور له على هذا
النحو.. وقد طافت هذه الافكار جميعها في ذهن تومي في ثوان أدرك بعدها أن
موقفه أصبح في غاية الخطورة وأن عليه تمثيل دور الانجليزي الغبي عله ينجو
بجلده.. فتمالك نفسه ، وعدل ملابسه وجمع ما انتثر من جيوبه ثم قال موجهها
حديثه للعملاق المنتصب بباب الحمام بعد أن رسم على شفتيه ابتسامة ركز فيها
كل ما استطاع من بلاهة :
- يا للعجب .. حقا ان ما نراه في منزلك من الغرائب يثير الدهشة والعجب .. هل هذا أحد أجهزة هاهن الغريبة ؟
وكان هايدوك قد وقف بالباب دون أن يتحرك .. وخيل لتومي أنه تمد حتى ملأ
فراغ الباب كله .. فسرت في بدنه قشعريرة وأحس بالعرق البارد يغمره وتذكر أن
هناك الساقي أيضا.. ومن يدري ؟ وقطع أفكاره صوت هايدوك ضاحكا:
- انه أمر مثير للضحك يا ميدوز .. فقد قفزت في الهواء كأبرع لاعبي
الباتيناج ، ولست أعتقد أن حركة كهذه تحدث للمرء مرتين في العمر .. جفف
يديك وتعال الى الغرفة الاخرى..
وتبعه تومي وهو في غاية التنبه لأقل حركة أو بادرة فان عليه ان يخرج سليما
من هذا المكان وفي الحال بأي ثمن.. وامتدت يد هايدوك الى كتف تومي بحركة قد
تكون طبيعية وقد لا تكون.. وقاده الى غرفة الاستقبال فدخل أولا وتبعه
هايدوك الذي لم ينس أن يغلق الباب خلفه .. ثم قال في صوتي طبيعي وهو يشير
الى تومي بالجلوس :
- لدي ما أقوله لك أيها الطفل العجوز .. انه موضوع غريب.. ولن أقوله لك الا
لأنك موضع ثقتي .. وعليك أن تنساه مباشرة يا ميدوز .. هل تفهم ما أعني؟
فأعمل تومي جهده ليظهر بمظهر المتلهف على سماع الحديث.. بينما سحب هايدوك كرسيا وقربه الى حيث جلس تومي ثم قال :
- ان المسألة يا ميدوز لم يدركها أحد مطلقا . اني أعمل في قلم المخابرات . .
فهز تومي رأسه نفيا وزاد من تصوير تلهفه .. فاستطرد هايدوك :
- انه سر في غاية الخطورة .. بل هو من أسرار الدولة العليا يا ميدوز ..
ونحن نرسل من هنا بعض الاشارات السرية، وأكرر القول انه سر في غاية الخطورة
بل هو سر مميت لو عرف .. أتفهم ما أعني؟
- طبعا .. طبعا .. ما أغرب هذا ! ثق أنني سأنسى هذا الحديث..
- يكفي ما علمت.. واني أعتذر إليك.. ولكن الحادث كله لم يكن متوقعا ..
وكان تومي يحسب لكل كلمة يقولها ألف حساب ، اذ لم يكن يتوقع ان يصدق
الكوماندوز اصطناعه البلاهة ، ولكنه لم يجد سواها بابا يحتمل أ، يخرج منه ،
وكان يعتمد على أن الغرور صفة من صفات أغلب الرجال ، أمثال هايدوك ، الذي
يعتقد نفسه انه أذكى من سائر المخلوقات .. وانه تبعا لذلك يعتبر ميدوز هذا
رجلا انجليزيا غبيا يصدق كل ما يقال له .. فاستمر تومي يتكلم مظهرا اعجابه
ودهشته دون ان يلقي سؤالا واحدا على الكوماندوز الذي أخذ بدوره يتكلم
ببساطة البحار الانجليزي واختفى الضابط البروسي الفظ خلف قناع صفيق، ولكن
تومي كان يراقبه بعين جديدة على ضوء ما اكتشف ..
وبعد هنيهة وقف ميدوز وقال :
- لقد تأخرت كثيرا ويحسن بي أن أذهب الان وأعدك الا افتح فمي بما رأيت أو علمت كما أعتذر اليك عما حدث فقد كان بمحض الصدفة ..
وكان يقول في نفسه.. هل سيسمح له بالخروج يا ترى ؟
واتجه نحو الباب .. ثم سار في الردهة . وأصبح على خطوات من الباب الخارجي ..
ولمح في غرفة على يمينه آبل دور يعد أدوات المائدة للصباح التالي ..
اذن .. ان الامور تسير كما يهوى .. وسيتركه الأغبياء يخرج .. بالسر الخطير ..
ووقف الرجلان هايدوك و ميدوز بالباب الخارجي يضربان موعدا لمباراة جولف، على أرض النادي يوم السبت المقبل..
وسمعا أصواتا قادمة في الطريق .. كان رجلين من أعضاء النادي يعرفهما معرفة
سطحية ، ولما رأيا الكوماندوز وأشار اليهما ميدوز بالتحية توقفا وتبادل
الجميع بعض الحديث ، ثم استأذن تومي من الكوماندوز وسار في طريقه الى سان
سوسي بصحبة الرجلين الذين سارا في نفس الاتجاه ..
- ها هو ذا ، قد أصبح طليقا بعد أن انكشف له السر الخطير ..
وسقط هايدوك الغبي في الفخ دون أن يشعر ..
وتوالت أفكاره من كل اتجاه .. ماذا يقدر لاكتشافه هذا .. سيهز ادارة
المخابرات هزا عنيفا .. ووصل الى أبواب سان سوسي . ويحا زميليه في الطريق
.. وسار في الممر يصفر لحنا .. وما أن استدار في المنعطف المظلم الذي يؤدي
الى الدرج حتى أحس بشيء ثقيل يهبط على رأسه فسقط على وجهه ، وغاب عن الوجود
...
*
*
* * *
* *
*