- "كان من واجب أبي أن يحضره، فهو صغيرٌ ولا يستطيع أن يعيش معتمداً على نفسه.:.. وكان من المحتمل أن يموت لولا أبي...." قلنا لأمي بلهجة عتاب اعتراضاً على ما سمعناه منها.
- "لكنه مع ذلك في طريقه إلى الموت.. عندها سيكون في البيت صراخ آخر"..ردّت أمي وهي تهزّ رأسها. فقد كانت تكره موت الحيوانات في البيت.
غاصت قلوبنا بعد ما سمعناه من أمي عن احتمال موت الأرنب.
- "أعتقد أنّه لن يموت" قال أبي مؤكداً.
- "بل إنّه سيموت.. لقد حصل مثل هذا كثيراً، معنا، من قبل؟!"
قالت أمي...
- "الحيوانات لا تموت دائماً... بل تقاوم الموت وتنجح في دفعه أحياناً.. مثل الإنسان...." قال أبي بلهجةٍ غاضبةٍ.
وهنا راحت أمي تذكره بالحيوانات التي أتى بها إلى البيت ولاقت حتفها... مما جعلنا -نحن الأولاد- نبكي كثيراً وتسيل دموعنا بغزارة بسبب ذلك.
أجلسنا -نحن الأولاد- الأرنب الصغير على أرجلنا ووضعناه في أحضاننا. كان ساكِناً وعيناه مفتوحتين. جلبنا له الحليب الساخن، وقربناه من فمه، لكنه كان غير مبالٍ أبداً بما نفعله من أجله.
وضعنا قطرات من الحليب على شفتي الأرنب، لكنه لم يتحرك، بل هزّ رأسه ليتخلص من تلك القطرات. بعضنا راح يبكي خوفاً على حياته.
- "خذوه إلى الحقل.... ليس هنا مكانه...." قالت أمي بلهجةٍ آمرةٍ. لكنّ أمرها بقي دون تنفيذ.
ذهبنا لنرتدي ملابسنا وكي نذهب للمدرسة، بينما بقي الأرنب جالساً. كان مثل غيمةٍ داكنةٍ صغيرة لا تتحرك من مكانها. رحنا نراقبه، وقد بدأت مشاعرنا تتلاشى شيئاً فشيئاً نحوه.
ربما يكون من العبث أن نحب هذا المخلوق. هذا ما فكرنا به.
ربّما لا يريد حبنا وعواطفنا. أيكون مخلوقاً متوحشاً؟! لقد أصبح أكثر صمتاً عندما اقتربنا منه ثانيةً.
- "يجب ألاّ نحبّه..... يجب ألاّ نحبّه... قد لا يستحق حبنا؟!"..
قلت لأشقائي.
لففت الأرنب بثوبٍ صوفيٍ ووضعته في زاوية مظلمةٍ في غرفة الجلوس الباردة، ووضعت صحناً من الحليب أمامه. وعندما شاهدت أمي ما قمت به، أعلنت أنّها لن تدخل غرفة الجلوس مادام الأرنب فيها، وقالت:
- "سوف لن أهتمّ بأفكاركم السخيفة....".
عدنا من المدرسة بعد منتصف النهار، وتسللنا إلى الغرفة.
كان الأرنب ساكناً، بدون أية حركة، وملفوفاً بثوب الصوف، كما تركناه، وكانت تلك مشكلتنا الكبيرة: "لماذا يبقى هكذا؟!"...
وسألنا أمي بدهشة:
- "لماذا لم يتناول الحليب يا أمي؟!"
- "إنّه يفضل أن يعيش حياته الخاصة، بعيداً عن هنا. إنّه شيءٌ صغيرٌ تافه....!!"
يفضل أن يعيش حياته الخاصة!! إنّها مشكلة!!...
اقتربنا منه، ووضعنا أمامه بعض الأعشاب الطرية وقريباً من فمه، لكنّه لم يبدِ أيّ اهتمام. كانت عيناه تلمعان.
ذهبنا لتناول الشاي. وعندما أدرنا ظهورنا له، قفز بضعة سنتيمترات خارج قطعة الصوف، وجلس ساكناً بدون غطاء.
حلّ الظلام، انطلق والدي إلى عمله، أمّا الأرنب فقد بقي ساكناً، وبدت علائم اليأس على أشقائي. وهذا معناه أنّ سيلاً من الدموع سيحصل قبل النوم، حزناً على الأرنب وتعاطفاً مع حالته.
تجمّع الغضب في عيني أمي.
لففنا الأرنب، ثانيةً، بقطعة الصوف، بعدما نقلناه إلى الغرفة الأخرى، ووضعناه قرب موقد النار النحاسي. وهكذا فرّبما يتخيّل نفسه داخل حجره. وضعنا العديد من الصحون، أربعة أو خمسة، متناثرةٍ حوله، هنا وهناك، على الأرض.
أينما يتحرك -إذا ما تحرّك- فسوف يكون الطعام قريباً منه.
دخلت أمي الغرفة لتأخذ ما تريده منها ثم خرجت لتعلن أنّها لن تدخلها ثانيةً قبل رحيل هذا الشيء التافه الصغير.
جاء صباح اليوم التالي بأنواره. نزلت إلى الطابق الأرضي كي أرى الأرنب. وعندما فتحت باب الغرفة سمعت حركةً ما.
بعد ذلك شاهدت الأرنب يحدق بي، وقطرات الحليب على الأرض.
كانت عيناه حمراوين. أخذ يحرك أنفه، وهو يحدّق بي.
كان الأرنب بصحةٍ جيدة.