الحمد لله وصلى الله وسلم على عبده ونبيه ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، وبعد:
حل علينا زائر كريم عزيز، وضيف مفعم وحبيب على قلوبنا، فكم طال انتظاره وآلمنا فراقه وشق علينا البعد عنه، ضيف لا كسائر الضيوف، وزائر لا كعموم الزائرين، موسم من مواسم الطاعات والخيرات والقُربات والبركات، نهر جار نغترف منه العطايا والهبات، مدرسة جامعة لجميع الأجيال والفئات، معسكر تأهيلي تدريبي لإعداد الأبطال والقادة والقدوات، شهر الذكر والدعاء وتلاوة القرآن واستلهام العبر والعظات، شهر التوبة والأوبة والإنابة لرب البريات، شهر الصبر والجهاد والانتصارات.
صوم رمضان ركن من أركان الإسلام، وفريضة من فرائضه العظام، وعبادة جليلة عظيمة نزل في شهره القرآن، وقربة وطاعة تختلف عن سائر العبادات والأعمال اختصها لنفسه ذو الجلال والإكرام.
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الحديث القدسي عن ربه( كل عمل ابن آدم له ؛ إلا الصوم ، فإنه لي ؟ فقال : إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عز وجل عبده ، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله ، حتى لا يبقى إلا الصوم ، فيتحمل الله ما بقى عليه من المظالم ، ويدخله بالصوم الجنة![1]
يقول أبو الحسن الماوردي: وإنما اختص الصوم بأنه له, وإن كان كل العبادات له, لأمرين بَايَنَ الصومُ بِهِمَا سائِرَ الْعِبَادَاتِ: أحدهما: أن الصوم منع من مَلاَذِّ النفس وشهواتها, ما لا يمنع منه سائر العبادات. والثاني: أن الصوم سر بين العبد وربه لا يظهر إلا له, فلذلك صار مختصاً به, وما سواه من العبادات ظاهر, ربما فعله تصنّعاً ورياء, فلهذا صار أخص بالصوم من غيره.[2]
من أجلّ معاني الصيام وأنفعها وأعظمها تحقيق التقوى، كما قال سبحانه ( ولعلكم تتقون )، هذا تعليل لكتابة الصيام ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا ، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله تعالى بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة امتثالا لأمره واحتسابا للأجر عنده ، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها فيكون اجتنابها أيسر عليه ، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها فيكون الثبات عليها أهون عليه.[3]
إن ترك الطعام والشراب وبعض المباحات في نهار رمضان، هو جزء من الصيام لا الصوم كله، يقول ميمون بن مهران: أهون الصيام الصيام عن الطعام.
كثير من الناس اعتاد تبادل التهاني والتبريكات والفرح والسرور بقدوم هذا الشهر الكريم، وهذا شيء طيب، كما أنهم يتأهبون استعدادا لرمضان من حيث التبضع والتجهيز وبعضهم يبالغ في أصناف المأكولات والمشروبات، ناهيك عن جشع واستغلال العديد من التجار ورفع الأسعار إذ يعتبرونه موسم من مواسم التجارة الدنيوية التي لا تعوض!!
ففي الغالب نجد استعدادات ظاهرة مادية شكلية تعوّد عليها الناس، أما الاستعداد القلبي الإيماني المعنوي، وشحذ الهمم وصدق النية والتوبة الحقيقية النصوح، ووضع برنامج وتخطيط مسبق لاستثمار واستغلال هذا الشهر، يكاد يكون نادر جدا!!
يقول عليه الصلاة والسلام ( من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ).[4]
إذن ليس الصيام كما يفهمه ويفعله الكثير، ترك الطعام والشراب نهارا، ثم السهر والسمر ومتابعة القنوات والمسلسلات وتضييع الأوقات كلا وحاشا، فالخطورة تكمن بأن الصيام يصعب معه الرياء، لكن أين يحصل الخلل في الشطر الآخر من اليوم الذي يفترض أن يكون فيه الدعاء والتضرع وقراءة القرآن وقيام الليل!
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس الصيام من الطعام والشراب وحده ولكنه من الكذب والباطل واللغو والحلف.[5]
وكان الشبلي إذا دخل شهر رمضان جد فوق جد من عاصره ويقول: شهر عظمه ربي فأنا أول من يعظمه.
ولله در الحسن البصري رحمه الله عندما مر بقوم يضحكون في رمضان فقال: يا قوم، إن الله جعل رمضان مضمارا لخلقه يتسابقون فيه إلى رحمته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاهي في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المتخلفون؟ أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسنا إحسانه ومسيئا إساءته.
وكان الإمام الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات وأقبل على قراءة القرآن.
تخيلوا أن الإمام مالك بن أنس رحمه الله كان يترك مدارسة الحديث ومجالسة أهل العلم إذا دخل رمضان، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
شهر رمضان هو منحة ربانية للأمة الإسلامية، ومحطة من محطات مراجعة النفس والخلوة مع كتاب الله عز وجل، وحسن الإلتجاء لله سبحانه وصدق التضرع، فشتان بين من يصوم عن الطعام والشراب فحسب، ومن يحقق تقوى الله ويبذل وسعه وجهده ويستغل وقته ويجتهد في طاعة الله بعيدا عن الملهيات ومضيعة الأوقات، فلا تجعل من رمضان شهر نوم وكسل وخمول.
نسأل الله أن يعيننا فيه على القيام والصيام وسائر الطاعات، وأن يتقبل منا ومنكم فالفائز من وفق في هذا الشهر لمرضاة الله، والمحروم من حُرِم الخير فيه.