إذا واظب الإنسان على صيام جوارحه عن المعاصي وأقامها في الطاعات يمن الله عليه بما منَّ به على عباد الله الصالحين وأولياءه المقربين فإن كرامات الصالحين كلها تقع على هذه الجوارح إما أن يُكرمه الله بكرامات تظهر على العين فيرى ما لا يراه الناظرون يرى الملكوت الأعلى وما فيه من ملائكة ومقربين وأنواع المسبحين والذاكرين والمهللين إلى رب العالمين وإما أن يكرمه الله برؤية العرش وحملته وإما أن يكرمه الله برؤية اللوح المحفوظ ويكشف له ما فيه مما حفظه من الرموز والغيوب فيطلع على اللوح المحفوظ بعين في السريرة ونور في البصيرة لأنه عفَّ عينه ففتح الله عين بصيرته وإما أن يكرمه الله بأن يرى حقائق فيمن حوله ويتحقق فيه قول النبي {اتَّقُوا فِرَاسَةَ المؤْمِنِ فإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ الله ثُمَّ قَرَأَ (إنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ للْمُتَوَسِّمِينَ}[1] فيرى ما أخفاه الإنسان في صدره أو ما صنعه الإنسان بجارحة من جوارحه فهذا عثمان بن عفان يجلس في مجلس الخلافة ويرى ما صنعته عين إنسان من أصحاب حضرة النبي عند دخوله عليه وقال له منبئاً عن ذلك{ ما بال أحدكم يدخل علىَّ وفي عينيه أثر الزنا – رأى ما صنعته العين – قال: أوَحْى بعد رسول الله يا أمير المؤمنين؟ قال:لا ولكنها فراسة المؤمن}[2] فأصحاب الفراسة يرون على الجوارح ما صنعته وما فعلته وقد يكرمه الله فيرى خصائص الأشياء التي استودعها الله في الأشياء العالية والدانية فلا ينظر إلى أي حجر أو نبات أو زهر أو غيره إلا ويرى فيه بنور ربه خصائصه التي استودعها الله فيه قال سيدنا أبو ذر{لَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَمَا مِنْ طَائِرٍ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلا وَهُوَ يُذَكِّرُنَا مِنْهُ عِلْمًاً }[3] وكان أحد الصالحين على الخواص إذا نظر في المحبرة يخبر عن كل كلمة ستكتب بهذا الحبر حتى ينتهي من المحبرة قبل أن يُكتب به وكان إذا ذهب إلى المغطس (بِركة كانت في المساجد يغتسل فيها الناس من الجنابات)- ينظر إليه ويعرف جنابات من اغتسل فيه ويقول هذه جنابة فلان وهذه جنابة فلان بالنور الذي قال فيه الرحمن {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} غير النور الذي يجعله الله في الآخرة فإن الله يجعل له نوراً يقول فيه الله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}الذين ينظرون إلى سيما الآخرين بالنور الذي وضعه الله في قلوبهم، لأنهم غضوا الأبصار ولم ينظروا بها إلا إلى ما يحبه العزيز الغفار وقد يكرمه الله بكرامات الأذن، فيسمع تسبيح الكائنات {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وهناك من يفقه تسبيحهم فيُعَلِّمه الله لغات الأشياء حتى لغة الجمادات ويسمع نطقها بألفاظ فصيحات ويسمع تسبيح حقائقه في جسمه الظاهرة والباطنة فقد قال أحمد بن عطاء الله السكندري في كتابه ( مصباح الأرواح ومفتاح الفلاح في الذكر وكيفية السلوك) عندما أخذ يذكر الله في خلوته{حتى وصلت إلى حال سمعت فيه كل جارحة من جوارحي وكل عضو من أعضائي يذكر الله فسمعت الأذن تذكر وسمعت العين تذكر وسمعت الشَّعْر يذكر وسمعت الأصابع تذكر وسمعت كل عضو من أعضائي يذكر الله بألفاظ فصيحة}
نغمات تسبيح الكيان مُدامي يصغى لها قلبي يزيد هُيامي
قلبي لدى التسبيح يصغى واجداً وجد المؤله من فصيح كلامي
فيسمع تسبيح الكائنات في الآفاق ويسمع تسبيح الحقائق في نفسه ويسمع كل الكلمات بكل اللغات لجميع المخلوقات فيسمع كلام الملائكة عندما تتنزل عليه {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} ماذا يقولون لهم؟ {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} ويعلم كل اللغات وأنتم تعلمون أن أصحاب النبي الستة الذين كلَّفهم بتبليغ الرسائل إلى الملوك وأعطاهم الرسائل وأمرهم بالتوجه في الصباح الباكر كلٌ إلى جهته ولم يكونوا يعرفون لغة البلاد التي سيذهبون إليها وناموا وقاموا في الصباح وكل رجل منهم يجيد لغة البلد التي سيذهب إليها أحسن من أهلها {فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تعليم من حضرة العليم وبعضهم كان قوى الحفظ والتعلم فأمره رسول الله بتعلم السريانية وهى لغة صعبة فأتقنها في أسبوعين فقط ويسمع بها أكثر من هذا يسمع كلمات الحبيب التي من سمعها فإنه فوراً عن الدنيا وما فيها يغيب وبذكر الله يطيب ويشتهي فوراً أن يرفع عنه كل حجاب حتى يُمتع نظره بالنظر إلى وجه الحبيب والأزهى والأبهى والأبهر من ذلك أن يُهيأه الله لسماع كلمات الله التي يقول فيها لسيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام{يَا مُوسى إِنَّمَا كَلَّمْتُكَ بِقُوَّةِ عَشْرَةِ آلاَفِ لِسَانٍ}[4] وأعطاه الله عشرة آلاف أذن فكان كله آذان ليسمع كلام الرحمن ويدخل في قول الله {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} قد يقول البعض {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فنشرح تلك الآية ونقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً} وهم الأنبياء والمرسلين {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ}والحجاب هو البشرية فإذا رفع الله حجاب البشرية وبقى الإنسان بالحقيقة النورانية وهي النفخة الإلهية سمع بما فيه من مولاه خطاب الله جل في علاه{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} وهذا خاصة للأنبياء والمرسلين أو رسول الإلهام بالنسبة للصالحين والعارفين والمتقين وقد يكرمه الله بكرامات اللسان فيُنزل على قلبه البيان الذي يقول فيه بالقرآن {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً}فينطق بالعلوم الوهبية الغيبية وينطق بالحقائق القرآنية أو يخاطب بلسانه الحقائق العلوية أو يخاطب بلسانه الحقائق الأرضية الكونية وتستجيب له وتُنفذ مراده وقد يعطيه الله بلسانه كن فيكون إذا قال هذا اللسان كن لأي شيء فإنه يكون لأن الله تنزَّل له بذلك وأعطاه ذلك بعد أن أهَّله لذلك لأنه صان هذا اللسان عن كل كلام يُغضب حضرة الرحمن وقد يُطوي الله لهذا اللسان المسافات والجهات كما فعل مع عمر عندما وقف على المنبر وخاطب سارية في بلاد فارس وقال بلسانه { يا سارية الجبل }[5] وسمع سارية الصوت وفقه مراده من النداء وهذا أعجب وردَّ وقال {لبيك يا أمير المؤمنين} وقد يجعل الله هذا اللسان مجاباً في أي دعاء يطلبه من حضرة الرحمن فلا يرد الله له طلب وكل طلب يطلبه يحققه الله ويُدخله في قوله{لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} وقد يعطيه الله كرامات اليد فلا تلمس مريضاً إلا شفته ولا سقيماً إلا أبرأته وراثة لرسول الله ولا تلمس طعاماً إلا باركته إذا وضع يده في طعام فإن البركة توضع في هذا الطعام حتى يكفي الفئة الكثيرة من الأنام وقد يجعل الله هذه اليد في قوة قول الله{وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا}[6] كَيَد موسى عندما وكز المصري كما قال الله { فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ } وقد يكرمه الله بكرامات البطن فلا يرى أو ينظر أو تمتد يده إلى طعام فيه شبهة أو حرام إلا وتصدر إشارة منبهة من البطن إلى عضو مناولة الطعام وهو اليد فيعلم أن هذا الطعام فيه شبهة أو حرام فيمتنع عن أكله ويحفظه الله بحفظه لأن الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين الإمام المحاسبي كان إذا امتدت يده إلى طعام فيه شبهة أو حرام يضرب عِرق في يده فيعلم أن الطعام فيه شبهة فيمتنع عن تناوله ولما امتحن قوم أحد الصالحين وجاءوا له بدجاجة خنقوها ولم يذبحوها وسووها ووضعوها أمامه فنظر إليها ثم انتفض وقام وقال{ إن كان الحارث المحاسبي له عرق ينفض فأنا كلي عروق تنفض هذه الدجاجة مخنوقة}علامات توسمات يعطيها الله للصالحين الذين حفظوا بطونهم عن الحرام والشبهات والآثام ولم يدخلوا فيها إلا الطعام الذي يرضي الملك العلام وعملوا فيها بمنهج المصطفى فلم يملؤها حتى من طعام حلال ولم يُعطوا النفس كل ما تتمناه من شهوات ورغبات وإنما كان يقول الواحد منهم لنفسه مكرراً قول حبيبه { مَا مَلأَ آدمِيٌ وِعَاءً شَرَّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلْثٌ لِنَفَسِهِ}[7] وقد يكرمه الله بإكرامات القلب فيكون هذا القلب له إطلالة علوية على الأحوال الربانية التي لا يطلع عليها الملائكة الكرام ولا أهل عالين ولا أهل عليين لأن الله أكرمه بوراثة سيد الأولين والآخرين وقد يكرمه الله بالإلهام وقد يكرمه الله بالسكينة تتنزل عليه على الدوام وقد يكرمه الله بالطمأنينة لذكر الله الذي لا يتحرك القلب إلا به وبه الحياة وقد يكرمه الله فيفتح له كنوز الحكمة في قلبه وقد يكرمه الله فيُفرغ له من أسراره التي لا يُطلع عليها إلا خواص عباده إذاً قلب العبد المؤمن أوسع من السموات والأراضين ومن فيهن بما فيه من ألطاف إلهية خفية وعلوم ربانية وأسرار ذاتية لا نستطيع الإباحة بها في هذه المجالس الدنيوية وإنما تستطيع أن تتذوقها إذا ترقيت إلى هذا المقام وخصك الله بهذا العطاء إكراماً من المصطفى قد يكرمه الله إذا حفظ فرجه إلا عن زوجه وأهله فيجعل الله له أولاداً من قلبه وأبناءاً من روحه كان يقول فيهم أحد الصالحين مخاطباً أحبابه (يا ولد قلبي) فيجعل الله له من الولدان المخلدين ما لا يُعد ولا يُحد وهم امتداد له في الدنيا ورفقاء له في الدار الآخرة وزيادة خير عظيم له يوم لقاء الله.
[1] سنن الترمذي عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ [2] طبقات الشافعية الكبرى[3] رواه ابن عساكر ورواه أحمد بلفظ «لقد تركنا رسول الله وما يتقلب في السماء طائر إلا ذكرنا منه علماً»[4] رواه البزار عن جابرٍ جامع المسانيد والمراسيل[5] ذكره البيهقي في الدلائل، والإصابة في تمييز الصحابة[6] صحيح البخاري عن أبي هريرة [7] سنن الترمذي عن مِقْدَامِ بنِ مَعْدِ يكَرِبَ
منقول من كتاب [الصيام شريعة وحقيقة]
للشيخ فوزى محمد أبو زيد