الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام، من لوازم المؤمن أنه متواضع، قال تعالى:
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾
( سورة الفرقان الآية: 63 )
أي في سكينة ووقار متواضعين، ليسوا مرحين، ولا متكبرين، أي علماء حكماء، أي أصحاب وقار وعفة، لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلموا، هذا معنى قوله تعالى:
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾
الهَون بالفتح ؛ صفة المؤمنين، الرفق واللين، والهُون بالضم ؛ الهوان صفة الكافرين، ويقول الله عز وجل :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾
( سورة المائدة الآية: 54 )
معنى أذلة ؛ أي ينقادون لهم، يشفقون عليهم، يرحمونهم، يعطفون عليهم، ليس ذل هوان، إنه ذل انقياد، كيف أن الأم لما أودع الله في قلبها من الرحمة يستطيع ابنها أن يسألها، وأن تجيبه، تجيبه برحمتها به، لذلك المؤمن كالجمل الذلول، والمنافق والفاسق ذليل.
فرق كبير بين ذلول وذليل، وقيل: إن الذل يعشق الكذاب والنمام والبخيل والجبار، فالكذاب والنمام، والبخيل والجبار لا بد لهم من ذل حينما يكشف أمرهم.
أما معنى قوله تعالى:
﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾
من عزة القوة والمنعة والغلبة، قال عطاء: أذلة على المؤمنين أي هم للمؤمنين كالوالد لولده، وعلى الكافرين كالسبع على فريسته، و في آية أخرى:
﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾
( سورة الفتح الآية: 29 )
وفي حديث صحيح عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ))
[أبو داود، ابن ماجه]
أكاد أقول: إن السمة البارزة بالمؤمن التواضع، وإن السمة البارزة للكافر الكبر.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ ))
[ أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه]
وفي حديث احتجاج الجنة والنار عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ:
(( احْتَجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتْ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ، مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا فُقَرَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ ؟ وَقَالَتْ النَّارُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ ؟ فَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَقَالَ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ لَهَا مَا يَشَاءُ، وَأَمَّا النَّارُ فَيُلْقَوْنَ فِيهَا، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ قَدَمَهُ فِيهَا، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ، قَطْ ))
[أحمد، وأصله في البخاري]
هذا الذي كان في الدنيا متواضعاً، كان لين الجانب، كان كالجمل الذلول، هذا مصيره إلى الجنة.
وفي الحديث القدسي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ ))
[ رواه مسلم ]
وفي رواية فمن نازعني قصمته.
وحينما يرى الإنسان عدوه مستكبراً ينبغي أن يفرح، لأن الله سوف يقسمه.
وفي جامع الترمذي عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ فِي الْجَبَّارِينَ فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ ))
[الترمذي]
قد يكون الإنسان في المرتبة الدنيا في المجتمع، لكنه جبار، لو وكلته على رَجلين لسحقهما، التجبر لا يعني أنك عظيم، قد يكون الإنسان في المرتبة الدنيا، ومع ذلك يكون جباراً.
كان عليه الصلاة والسلام يمر على الصبيان فيسلم عليهم، وكانت الأمة ؛ الطفلة الصغيرة تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت، وكان إذا أكل عليه الصلاة والسلام لعق أصابعه الثلاث، وكان صلى الله عليه وسلم في بيته في خدمة أهله، ولم يكن ينتقم لنفسه قط، وكان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيء، وكان هين المأونة، لين الخلق، كريم الطبع، جميل المعاشرة طلق الوجه بساماً، متواضعاً من غير ذلة، جواداً من سرفٍ، رقيق القلب، رحيماً بكل مسلم، خافض الجناح للمؤمنين، لين الجانب لهم، وكان صلى الله عليه وسلم يقول:
(( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النّارِ، وَبِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النّارُ ؟ عَلَى كُلّ قَرِيبٍ هَيّنٍ سَهْلٍ ))
[ رواه الترمذي ]
وحَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ ـ قدم الخروف ـ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ ))
[ رَوَاهُ البُخَارِيّ ]
وكان يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم قريظة على حمار، مختوم بحبل ليف، عليه إكاف من ليف.
أيها الإخوة، من أقوال العلماء الربانيين عن التواضع:
سئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله "، فهو خاضع للحق، ولو نطق به طفل صغير، بينما المتكبر لا يخضع للحق، ولو نطق به أعلم العلماء،
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾
(سورة البقرة: الآية 206)
وقيل التواضع: ألا ترى لنفسك قيمة، فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب، إنك حسنة من حسنات ربك، منحك نعمة الوجود، نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد ونعمة الهدى والرشاد.
وقال الجنيد: التواضع خفض الجناح، ولين الجانب.
وقيل: قبول الحق من كان، والعز في التواضع، فمن طلبه في الكبر، من طلب العزة في الكبر كمن يطلب الماء من النار، العز في التواضع، ومن أراد أن يكون عزيزاً عن طريق الكبر والهيمنة وإرهاب الناس أصبح ذليلاً.
وقيل: الشرف في التواضع، والعز في التقوى، والحرية في القناعة.
وقال عروة: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا، قال: لمّا أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها.
سيدنا الصديق كان يحلب شياهًا لجارة له عجوز، فلما تسلم الخلافة، ظنت الجارة أن هذه الخدمة توقفت، لأنها لا تليق بخليفة المسلمين، ففي اليوم الأول من توليه الخلافة طُرق باب العجوز، فقالت لابنتها: افتحي الباب، فلما فتحت، فقالت: من الطارق ؟ قالت: يا أمي جاء حالب الشاة، وهو خليفة المسلمين.
ومر الحسن على صبيان معهم كسرٌ من خبزٍ، فاستضافوه على خبز فقط، فنزل وأكل معهم، ثم حملهم إلى منزله، فأطعمهم وكساهم، وقال: اليد لهم، لهم الفضل، لأنهم لا يجدون شيئاً غير ما أطعموني، ونحن نجد أكثر منهم، فلهم الفضل بهذه السابقة.
يروى أن سيدنا أبا ذر رضي الله عنه ما كان معصوماً، عيّر بلالاً بسواده، ثم ندم، فألقى بنفسه على الأرض، وحلف لا رفعت رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه، فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال ذلك.
سيدنا عمر بن عبد العزيز بلغه أن واليا له اشترى خاتماً بألف درهم، فكتب إليه عمر بلغني أنك اشتريت فصاً بألف درهم، فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم، وأشبع به ألف بطن، واتخذ خاتماً بدرهمين، واجعل فصه حديداً، واكتب عليه: رحم الله عبدًا عرف قدر نفسه.
أيها الإخوة الكرام، التواضع معرفة بالله عز وجل، لأن الجاهل لا يعرف الله، يرى نفسه كبيراً، أما المؤمن فيرى عظمة الله عز وجل، هذه الرؤية جعلته متواضعاً، وإذا أجرى الله على يديه الخير يعلم علم اليقين أن هذا هو فضل الله عليه، كلما تواضعت لله رفعك، وما من إنسان أعزه الله في الدنيا كسيدنا رسول الله ، وكان ما من إنسان أشد تواضعاً من رسول الله ، الله عز وجل أقسم بعمره الثمين قال له:
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) ﴾
( سورة الحجر )
فالتواضع ليس سلوكاً متكلفاً، الأذكياء يتواضعون من أجل أن ينتزعوا إعجاب الناس، نريد تواضع المؤمنين، متواضع حقيقة.
أيها الإخوة، أنت حينما تتواضع تأسر قلوب الآخرين، وأنت تريد أن تجلب قلوبهم، فالمتكبر لا يحبه أحد، والمتكبر لا يوقره أحد في غيبته، إذا كان كبيراً، قوياً، جباراً، يُعظم في حضرته، لكنه في غيبته مثال السخرية، أما المتواضع فمكرَّم في حضرته وفي غيبته، وكلما تواضعت لله زادك الله عزاً، فإذا أدرت عز وجل الدنيا والآخرة فاقتدِ برسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول لك مرة ثانية: التواضع ليس سلوكاً متكلفاً، بل هو سلوك طبيعي، تعرف أن الله تفضل عليك، إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل، ونسبه إليك، هذا هو التواضع، أنت أمام جبل شامخ، وأنت لا شيء، فإذا لم ترَ الجبل رأيت نفسك شيئاً كبيراً.
والحمد لله رب العالمين