شرح سبعون حديثًا (50)
50- عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يحب الرِّفق في الأمر كله»؛ متفق عليه.
قال ابن القيِّم- رحمه الله- نظمًا:
وهو الرفيق يحبُّ أهل الرِّفق بل يُعطيهمُ بالرِّفق فوق أمانِ
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي- رحمه الله- في شرحه لهذا البيت:
ومن أسمائه- سبحانه- الرفيق، وهو مأخوذ من الرفق الذي هو التأني في الأمور، والتدرُّج فيها، وضده العنف الذي هو الأخذ فيها بشدة واستعجالٍ؛ فالله- تعالى- رفيق في أفعاله؛ حيث خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيئًا فشيئًا، بحسب حكمته ورِفقه، مع أنه قادر على خَلقها دفعة واحدة، وفي لحظة واحدة.
وهو- سبحانه- رفيق في أمره ونَهيه، فلا يأخذ عباده بالتكاليف الشاقة مرة واحدة، بل يتدرَّج معهم من حالٍ إلى حال؛ حتى تأْلَفها نفوسهم، وتأنَس إليها طباعهم؛ كما فعل ذلك- سبحانه- في فرضية الصيام، وفي تحريم الخمر والربا، ونحوهما.
فالمتأني الذي يأتي الأمور برِفق وسكينة؛ اتِّباعًا لسُنن الله في الكون، واقتداءً بهدْي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تتيسَّر له الأمور وتذلَّل الصِّعاب، لاسيما إذا كان ممن يتصدَّى لدعوة الناس إلى الحق، فإنه مضطر إلى استشعار اللين والرفق؛ كما قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
رسائل:
• رسالة إلى دعاة الحق والفضيلة، وإلى كل ناصحٍ مرشد مُشفق، نقول:
رفقًا بالمنصوحين وقولًا ليِّنًا، فإن في ذلك مَدعاة لقبول نُصحكم والاهتمام به، فهلاَّ تأمَّلتُم خطاب الله- جل وعلا- لكليمه موسى وأخيه هارون- عليهما السلام- في قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44].
أي: اذهبا إلى فرعون الطاغية الذي جاوَز الحد في كفره وطُغيانه، وظلمه وعُدوانه، {فقولا له قولًا ليِّنًا}؛ أي: سهلًا لطيفًا، برفقٍ ولِين وأدبٍ في اللفظ، من دون فُحش، ولا صَلَفٍ، ولا غِلظة في المقال، أو فَظاظة في الأفعال؛ {لعله}- بسبب القول اللين- {يتذكَّر} ما ينفعه، فيأتيه، {أو يخشى} ما يضره، فيتركه؛ فإن القول اللين داعٍ لذلك، والقول الغليظ مُنفِّر عن صاحبه، وقد فُسِّر القول اللين في قوله- تعالى- : {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 18- 19].
فإن في هذا الكلام من لُطف القول وسهولته، وعدم بشاعته، ما لا يخفى على المتأمِّل؛ فإنه أتى بـ: {هل} الدالة على العرض والمشاورة، والتي لا يَشمئز منها أحد، ودعاه إلى التزكي والتطهُّر من الأدناس التي أصلها التطهر عن الشرك، الذي يقبله عاقل سليم، ولم يقل: أُزكيك، بل قال: {تزكَّى} أنت بنفسك، ثم دعاه إلى سبيل ربه الذي ربَّاه، وأنعَم عليه بالنِّعم الظاهرة والباطنة، التي ينبغي مقابلتها بشُكرها وذكرها، فقال: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}.
فإن كان أسلوب الخطاب هذا لذلك الطاغية، فكيف بإخوانكم المسلمين- يرحمكم الله؟!
• رسالة إلى كل مسئول نقول: إلى كل من وَلِي أمر المسلمين- سواء كانت ولاية عامة أو ولاية خاصة- كن رفيقًا بمَن هم تحت مسئوليَّتك، كن معينًا لهم على قضاء حوائجهم، وإياك أن تُماطل بهم، أو تسعى للإضرار بهم؛ فإن الله سائلك عن ذلك، فإن أحسنتَ، أحسن الله إليك، وإن أسأْتَ، جازاك الله على إساءتك بما تستحق، وكنت مذمومًا في الدنيا والآخرة.
• رسالة إلى كل أب وأمٍ أنعَم الله عليهما بالبنين والبنات، وإلى كل معلمة ومعلم أنعَم الله عليهما بذلك العلم، نقول:
رفقًا بالقوارير من بناتكم ومربيات الأجيال، ورفقًا بالبنين من أبنائكم صُنَّاع المجد- بإذن الله- فإنكم برِفقكم وحسن أسلوبكم، تصلون إلى ما لا تستطيعون أن تصلوا إليه بالشدة والعنف؛ فالتربية بالرفق والإحسان أكثر نفعًا وأشد قَبولًا في نفوس هؤلاء الأولاد؛ ليكون ذلك أدعى لقَبولهم ومحبتهم للخير وأهله، فالعنف معهم دون سببٍ بيِّن وكحالةٍ استثنائية، لا يُولد إلا العنف والكراهية والانفعالات.
• رسالة إلى كل ابن كريم نقول: رفقًا بوالديك وقولًا ليِّنًا؛ ألم تشعر يومًا ما بقَسوتك في التعامل معهما وهما اللذان سهِرا على تربيتك والإحسان إليك، فإذا كان الرفق مطلوبًا مع الآخرين، فهو مع الوالدين أوجب وأوْلى، بل إن التأفُّف في وجههما إثمٌ وقطيعة وجريمة، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فأحسِن صُحبتهما، وارْفُق بهما؛ فإنهما باب من أبواب الجنة.
هل سمِعت بوصيته تعالى لك في قوله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23- 24].
إنها وصيَّة الله لك من فوق سبع سموات، من كتاب الله- جل وعلا.
ها هما بجوارك قد بدأ المشيب إليهما، واحْدَودب منهما الظهر، وارتعشَت الأطراف، لا يقومان إلا بصعوبة، ولا يَجلسان إلا بمشقة، أنهَكتهما الأمراض، وزارتْهما الأسقام، فعليك بالبر والإحسان، ولا تَبخل عليهما بمالك وجُهدك، وحُسن خلقك وطِيب مَعشرك يا رعاك الله.
• رسالة إلى كل الأزواج نقول:
رفقًا بزوجاتكم ورحمةً بهنَّ؛ فقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أرفقَ وأرحم بعائشة- رضي الله عنها- من أبيها أبي بكر- رضي الله عنه- فقد كان الزوج العظيم أرفق بزوجته من أبيها، وأحلمَ عليها منه وأشفقَ عليها.
فهلاَّ اقتديتُم برسول الله- صلى الله عليه وسلم!
• رسالة إلى كل الزوجات نقول:
رفقًا بأزواجكنَّ ورحمة بهم؛ تقديرًا لظروفهم، وعدم الإثقال على كاهلهم، وتكليفهم بما لا يستطيعون، خاصة بأمر الطلبات وكثرتها، فالكفاف خير، وليكن لنا في أمهات المؤمنين- رضي الله عنهنَّ- قدوة حسنة حينما آثَروا واختاروا الباقية على الفانية، بعد أن خيَّرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك في قوله- تعالى-: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28- 29].
• رسالة إلى كلِّ مَن أنعم الله عليهم بالخدم والأُجَراء، نقول:
رفقًا بـهؤلاء الخدم، وتجنَّبوا أن تكلفوهم ما لا يُطيقون، وامتثلوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «ولا تُكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلَّفتموهم ما يغلبهم، فأعينوهم».
كما أننا ندعوكم للتصدق عليهم على أُجرائكم وخدمكم، زيادة على مستحقَّاتهم؛ ففيهم أجر وصدقة، وهم لها مستحقون، وإلا لَما تغرَّبوا عن أبنائهم وأطفالهم، ثم لتَبرأ ذِمَّتك من زللٍ أو خطأ، أو قسوة وتقصيرٍ.
نماذجُ من رِفق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
• عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: إن اليهود أتوا النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال اليهود: السام عليكم (الموت عليكم)، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «وعليكم»، قالت عائشة- رضي الله عنها-: السام عليكم ولعَنكم الله، وغضِب عليكم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «مَهلًا يا عائشة، عليك بالرفق وإيَّاك والعنف والفُحش»، فقالت عائشة- رضي الله عنها- : أوَلم تسمع ما قالوا؟! فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: «أوَلم تسمعي ما قلت، ردَدت عليهم، فيُستجاب لي، ولا يستجاب لهم فِيَّ»؛ رواه البخاري، وفي رواية مسلم: «لا تكوني فاحشة؛ فإن الله لا يحب الفُحش والتفحُّش»، فانظروا إلى الآثار المباركة بالرِّفق، فاعملوا به تَسعَدوا وتُسعِدوا الآخرين، وإيَّاكم والعنفَ؛ فإنه شقاء لكم وللآخرين، والله أعلم.